لعل أبرز حدث ميز هذا الأسبوع، كان هو توقيع أكثر من مائة شخصية وطنية على نداء وعريضة يطالبون فيها بإلغاء نظام التعصيب من قانون الإرث، باعتبار تنزيل هذا النظام في سياق ما نعيشه حيفا وظلما واقعين على المرأة، وباعتبار ما وقع من متغيرات مجتمعية وانتقال من منطق القبيلة إلى أشكال أخرى، لا يمثل فيها أقارب الأب أي أولوية تمنحهم حقا في التركة.
قبل الحديث عن التعصيب وبعض ردود الفعل المتشنجة التي أعقبت صدور النداء، فلا بد من التسجيل باعتزاز، قدرة الوثيقة على استقطاب كل هذه الأسماء الوازنة، من مختلف الاختصاصات والتوجهات والتيارات، للتوقيع على مطلب مجتمعي بعيدا عن الحسابات السياسوية والإيديولوجية.
ما التعصيب إذن؟ ولماذ اتفقت كل هذه الفعاليات على المطالبة بإلغائه؟ وهل في المطالبة به تعارض مع الدين والشريعة كما زعم كثير من المعارضين؟وهل فعلا كل الموقعين جهال بالشريعة كما صرح أحدهم؟
التعصيب المقصود بالنداء والعريضة، لا يشمل كل أنواع التعصيب، كأن يتفرد الابن بالتركة فتكون كلها له، أو حتى ما لو خلف الميت ذكورا وإناثا فيرثون حسب القانون الحالي بقاعدة: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكن المقصود حالات التعصيب التي يقع فيها على المرأة ظلم بين لا يمكن الاستمرار في قبوله، ولا التبرير له باجتهادات قديمة تغيرت كل السياقات المحيطة بها تغيرا جذريا وكبيرا.
التعصيب الذي نطالب بإلغائه صورته وفاة الميت تاركا خلفه بنتا أو عددا من البنات دون وجود ذكر معهن، فيأتي أي قريب من جهة الأب دون الأم ولو كان بعيدا كعم أو ابن عم أو ابن ابن عم ولو نزل، فيقاسم البنت أو البنات تركة والدهن، مع أنه لم تكن له أي رابطة بهن سوى تلك القرابة النسبية، لم ينفق عليهن يوما ولا تحمل من أجلهن درهما، ولا شارك في تكوين تلك الثروة ولا حضر جمعها، ليكون له هذا كل هذا النصيب من التركة.
التعصيب الذي نريد إلغائه هو الذي يعطي لأخت الميت نصف التركة حال موته عن بنت واحدة، وثلثها حالة موته عن بنتين فأكثر، مع أن تلك الأخت قد أسست أسرتها المستقلة، وانفصلت معيشيا وحياتيا عن ذلك الميت، ولم تكن لها أي مساهمة في تكوين أسرته.
هذا هو التعصيب الذي نراه مجانبا للعدل موقعا للحيف والظلم، بأي حق وبأي ميزان يرث العم وابن العم مع البنت أو البنات، مع إعفائه من أي مسؤولية تجاههن؟ أي شريعة هذه لا تراعي أن نظام الأسرة قد تغير اليوم، فلم نعد نعيش زمن القبيلة، حيث كان الأعمام وأبناؤهم جزءا لا يتجزأ من الأسرة؟ أي تصور هذا يسمح للعم وابن العم للدخول على البنت وأخواتها وجسد الميت لا زال طريا بموته، فيطلب نصيبه من المسكن الذي عاشت فيه الأسرة الصغيرة حياتها، بنته طوبة طوبة وتعاونت على تأثيثه قطعة قطعة؟ أي قانون هذا يلجيء الناس للتحايل عليه والهروب منه عبر بيع ممتلكاتهم لبناتهم زمن حياتهم خوفا من أن يدخل عليهم أخوه أو أبناؤه بعد موته؟
وإني لأعجب لهذا التدليس الكبير الذي يمارسه المعارضون حين يحاولون دغدغة عواطف الناس وعقائدهم، حين يزعمون مغالطين أن في هذا المطلب نقضا للدين والشريعة، مع أن هذا النظام الظالم ليس له من سند في القرآن النص المؤسس والأول للإسلام، بل لو زعمنا عكس ذلك لكنا أقرب للصواب، ألم يقل الله تعالى في حق الأخ:( وهو يرثها إن لم يكن لها ولد)، أي أن الأخ يرث تركة أخته بشرط عدم وجود الولد، فإن وجد الولد فلا شيء له، والولد يشمل الذكر والأنثى خلافا للفقه الذكوري الذي حصره في الذكور دون الإناث.
ليس للمنافحين عن التعصيب من حجة سوى ما ورد في الحديث: (ألحقوا بالفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وحتى لو قلنا بصحة الرواية وبتجردها عن السياقات، فإنها تتحدث عن الأولى، وليس عن أفراد معينين، فابن البنت اليوم أولى من العم، والخال وابن الأخت أولى من ابن العم، فلم حرموا هؤلاء جميعا مع أنهم اليوم أولى من أولئك المورثين؟ أي عقل يستسيغ هذا وبأي منطق يتحجج هؤلاء؟
يتحدث أحدهم بانتفاخ وغرور كبيرين عن كون الموقعين لا يفقهون شيئا في الشريعة، يمنعني أدبي واحترامي لمن هو أكبر مني سنا من الرد عليه بمثل ما تحدث به، لكنني فقط أعلمه إن كان غافلا أن في الموقعين من قضى كل عمره باحثا ودارسا في الموضوع، دراسة علمية وأكاديمية محكمة، وليس مجرد مكرر لما تلقاه عن شيوخه بتقليد وتبعية، فضلا على أن الظلم الواقع في مثل هذا الموضوع، لا يحتاج لذلك لدقة في النظر، ولا إلمام بأدوات الفقه والحديث، بقدر ما يحتاج عقلا متجردا عن الأدلجة، منصفا واعيا بتغيرات المجتمع وحاجياته وسياقاته، ما هكذا تورد الإبل شيخنا المبجل.
وأخيرا الشريعة ليست نصوصا تفصيلية ولا جزئية، الشريعة هي العدل. ومن يقف أمام تحقيق العدل بين الناس، ويمنع تطور القوانين بما يتناسب مع دوام هذه القيمة واستمرارها، هو من يعادي الشريعة ويعرضها للتهمة، وليس المدافعون عن حقوق النساء من شرفاء هذا الوطن.