"حصلة" صحفية!

أحمد مدياني
أحمد مدياني

تواجه مهنة الصحافة بالمغرب، ليس اليوم فقط، بل منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، صراع التعريف والتمييز بين ما هو منتوج صحفي صرف، ومن فُرض عليهم، بعد بزوغ فجر الصحف المستقلة، اعتماد بعض قواعد المهنة من أجل ضمان قانونية النشر لا غير.

لذلك، أرى أن الواقع الذي نعيشه، اليوم، ليس مولودا يُنسب لمواقع التواصل الاجتماعي ومنصات البث الرقمي. بل إن طفرة التجاذب الذي لم يبلغ بعد حدته كما يرى ذلك البعض، نتاج تراكمات مواصلة ترسيخ ثقافة الصحافة الحزبية، وعدم قدرة من خرج من رحم الرعيل الأول الانسلاخ عن متلازمة "الصحافي المناضل"، وإن لم يكن كذلك، فهو "صحافي مخزني".

نحن نعيش طفرة مشوهة لا غير. لأن ما تغير اليوم هي الأوصاف فقط، وطريقة إشاعة تصنيفاتها، عبر قنوات تتجاوز التقليدية منها عند الخاصة التي كانت من قبل منغلقة على ذاتها ولأجلها.

ما تغير، أيضا، هو استعمال قاموس جديد أنتجته هذه المرة العامة، ثم فرضته على الفئة الأولى، لتتحول المهنة من فاعل إلى مفعول بها، تحدد لها تفاعلات الافتراضي السرعة، عوض أن تقننها لها قواعد وأخلاقيات الصحافة والإعلام.

خلال دورة الصراع بين الملكية والأحزاب السياسية، خاصة المحسوبة على اليسار، كان وصف الصحافي ينحصر على من يحمل بطاقة عضوية داخل حزب معين، هكذا كانت قناعة الفاعل السياسي المعارض وكل من يدور في فلكه حينئذ.

كانت هيئات التحرير المحسوبة على اليسار غير مجبرة على طرح المقترحات والمواضيع، وتحديد زوايا المعالجة ووضع إجبارية نشر الرأي والرأي الآخر، وقبول التعليق على المواقف من باقي الأطراف وإن كانت على طرف النقيض.

بل كانت مجبرة على التعبير عن مواقف سياسية، مهما كانت درجة مهنية الأخبار التي تعالجها أو الحوارات التي تنجزها أو التقارير والروبرتاجات التي ترفعها من الواقع إلى الورق.

في المقابل، كان لزاما على "صحافة المخزن"، كما كانت توصف، أن تكون أداة من أدوات الصراع، وسوطا يسلط على المعارضين، دون تمييز بين إعطاء المعلومة وصناعتها، مع فلتات استثنائية، يمكن أن تمر، وكانت تمر عند هذا الصنف، دون أن تجد لها مساحة عند الأول، أي الصحافة الحزبية المعارضة.

هل هذا الوضع هو الذي يجب أن يكون؟

لنجيب. يجب أن نملك شجاعة تأمل حالنا اليوم، وقول الحقيقة كما هي وإن كانت توجع أي طرف من الأطراف.

أولا، الصحافي هو من يمارس مهنة الإخبار بالدرجة الأولى مهما كان مصدره، ثم له حق التعليق على ما يعالجه، سواء بطرح تساؤلات تختبر صدقية الخبر، أو باللجوء إلى من يملكون صفة وضع مضمونه فوق ميزان التمييز  بينه وبين البروبغندا.

هو من يعطي المعلومة بعد التحقق من صدقيتها، ثم يتبع ذلك بإنجاز تقارير تبسطها للقارئ، وتضع بين يديه ما أمكن من معطيات ومعلومات يشاء تغييبها عنه، وهنا يحضر اللجوء إلى جنسي التحقيق والروبورتاج الميداني، وحين نتحدث عن هذين النوعين من الصحافة، لا يجب أبدا اقتراف جريمة الإنشاء في الصياغة والحكي، أو "التشيار" بالمعطيات التي لم نعايشها أو لا نملك عنها دلائل تؤكدها.

والصحافي، هو من يشتغل عند مؤسسة معلومة، ينشر بصفة دورية ما يشتغل عليه، يظهر عمله في الميدان للقارئ، ولا يجد المواطن العادي أي عناء للوصول إلى إنتاجاته الصحفية والإعلامية.

وأن يكون على مسافة أمان مهني من الجميع. الصحافي هو الذي يشتغل بناء على ما يستمده من معلومات ومعطيات من كل السلطات والمؤسسات والفاعلين دون أن يصبح، بوعي أو بدونه، جزءا منها.

ليس هذا هو الوضع عندنا اليوم، عند من يشاؤون أن يكونوا صحافيين وليس شيئا آخر على الأقل.

نحن نعيش، اليوم، أزمة التطبيع مع "جيب يا فم وقول". مؤخرا، سألت صديقة مناضلة عن تناقض مواقفها ما بين ما تعبر عنه في الواقع وما تكتبه في الافتراضي عن مجموعة من القضايا الرائجة، خاصة تلك المرتبطة بحرية الرأي والتعبير.

لم تجب. دخلت في محاولات لتبرير أن "هذا هو المفروض في السياق الحالي". وكأن السياق هو من يفرض الموقف وليس الثاني من يجب أن يحدد الأول.

فهمت من كلامها، أن "بعض الجمهور الافتراضي الذي يتفاعل معها يريدها هكذا، وإن عبرت عن قناعاتها صراحة، سوف تخسره".

مثال آخر، ليتضح حيث أضع نفسي أنا، وسط كل هذا اللغط.

"لم أكن أتوقع موقف مدياني تجاه قضيتي، ولم أنتظر أن يتابع الملف أولا بأول، وأن ينشر بالموقع وعلى حسابه تضامنه معي". كانت هذه كلمات المهندس يوسف الحيرش، لمقربين مني ومنه، بعدما غادر السجن. وقال ذلك، لأنه لم يكن يجمعنا أي ود، بل تواجهنا أكثر من مرة افتراضيا، وأسمع بعضنا بعضا كلمات قاسية، بسبب مواقف تجاه مجموعة من الأشخاص.

ويوم حفل توقيع مجموعة من الصحافيين الشباب لكتابهم عن تجربة تغطية "زلزال الحوز"، التقيته مباشرة أول مرة، وهنا توجه إلي، وسألني، بعد عناق حار وشكر، "لماذا؟"

أجبته مباشرة ودون تردد: "لأنك اعتقلت على خلفية ممارسة الصحافة بمهنية وكل ما أنتجته كان من صميم الحرفة وأخلاقياتها وبذلت مجهودات لتصل إلى كل حرف ورقم نشرته".

ثم أضفت: "أنت ملك لنفسك، وما تنتجه نقرأه، هذه قوتك".

هذه هي الصحافة مهما كان اسم من يمارسها أو صفته.

وهذا ما يجب أن يحدد اليوم حق الانتساب إليها. وإن كان يرفض كثر ما يوصف بصحافة "التطبال" فيجب أن يرفضوا، أيضا، بحزم أكبر صحافة "جيب يا فم وقول".

خاصة إن كان النوع الثاني يختلط بشبهة تصفية الحسابات بين رؤوس تحرك العواطف، لتوجيه الضربات تحت الحزام بعناية، من أجل التفاوض على مواقع متقدمة في السباق نحو غنائم الريع السياسي والانتخابي والاقتصادي وتأمين السطو على الأراضي.

دون إسقاط محدد، يعني السلطة بمختلف تعبيراتها، وهو أن تجريف المهنة يجعل من المنتسبين إليها بمهنية، مكبلين تجاه الانتصار إليها. يظهر أداة تقدم خدمة مجتمعية بملامح مشوهة. تنحصر تعبيراتها عند الأصوات النشاز ومعها صيحات الاسترزاق لا غير. وهما، وجهان لعملة واحدة.

هما حليفان ينتجان يوميا شروط بقاء وتمدد كماشة "حصلة" صحفية.