لم يعد الموت عند البعض نهاية تطوى بها الخصومات، ولو مؤقتا، ولا لحظة صمت وتأمل تفرض التريث والاحترام والترحم، بل تحول الرحيل الجسدي، مهما كانت الأسباب، إلى فرصة لتصفية حسابات مؤجلة، وشكل من أشكال التشفي العلني من خصوم غابوا عن الحياة، ولم يعودوا قادرين على الرد.
بذلك، باتت لحظة الفقد، التي يفترض أن تحاط بحد أدنى من الاحترام والوقار، على غرار ما دأب عليه المغاربة من قول "العداوة ثابتة والصواب أيكون"، مناسبة للتنمر الرمزي والشماتة العلنية بكل المصطلحات، وتستعاد الكراهية بجرأة لم يكن الجهر بها من قبل، ويحسم في مصير الميت الأخروي، وكأن الغياب يسقط كل معايير الحياء والتعقل.
احترام الموت لا يعني تحصين الأفكار من النقد، ولا تحريم النقاش في ما خلفه الراحل من أثر أو خطاب، بل هو دعوة لاحترام لحظة الوداع، على الأقل في أيامها الأولى، بما يستوجبه ذلك من أخلاق وصمت رمزي وتأمل إنساني.
ومع اتساع الفضاء الرقمي، أصبحت هذه الظواهر أكثر تنظيما وعلنية، فأنتجت منصات التواصل جماعات افتراضية تتغذى على خطاب الكراهية، وتتحرك وفق منطق الغريزة الجمعية، وفتحت المجال أمام اللاوعي الجمعي لينفجر بلا رقيب، في ظاهرة مركبة تحمل أبعادا أخلاقية ونفسية واجتماعية.
لفهم هذه الظاهرة المتنامية، يفتح "تيلكيل عربي" حوارا مع الاستشاري النفسي عادل الحسني، مؤلف كتاب "سحر حضرة لملوك: تحليل نفسي-اجتماعي"، لمقاربة هذه المسألة من زاوية التحليل النفسي والاجتماعي، واستكشاف الدوافع العميقة وراء الشماتة والتشفي في الموت.
الحوار كاملا:
بغض النظر عن الصراعات الأيديولوجية السائدة، كيف يمكن أن ينشأ دافع التشفي والتنمر في النفس البشرية تجاه شخص توفي ولم يعد له أي وجود في الحياة؟
بديهي أن يخاف الناس أو يتهيبوا الموت، لكنهم يتفاعلون معه كظاهرة حية، فهو يحيي فيهم مدح الميت بنعوت كان من الصعب على النفوس أن تمنحها له وهو حي، هم بالتأكيد لا يمدحون الميت بقدر ما يرتقون إلى خطاب يليق بحدث الموت، هكذا شكل المجتمع البشري عموما خطابا يهدئ الأحياء تجاه الموت وليس تجاه الميت.
إن أول أثر موثق للممارسة الدينية على الأرض كان عبارة عن قبر وبعض التفاصيل المنحوتة التي يمكن وصفها بأنها متخيلات مرسومة للعزاء!
كلما مات شخص منا، نفعل كل ما يمكن أن يجعلنا نستمر في الحياة، مخففين ذلك الرعب الذي يخلقه الموت في النفوس، عادة ما تسير الأمور على هذا النحو الذي حاول الإنسان تعويد نفسه عليه منذ آلاف السنين، ليستمر في الحياة ويستقبل الموت بسلام، لكن هناك سيناريو مؤسف قد يتفجر في نفوس الأحياء لسبب يتجاوز كل الأخلاقيات، وهو الحقد! فمن المنطقي أن يتلاشى الحقد على شخص توفي نتيجة انتهاء صراع بانتهاء أحد طرفيه، لكن استمرار التعبير عن هذا الحقد، عما يعبر؟
يعبر عن أن الحاقد لم يكن في صراع مع المتوفى، بل في صراع قاس مع نفسه، لدرجة أن يحمل تجاه الأموات حقدا يخفف به رفضه لمشكلة ما في نفسه!
لكن لماذا يتجلى هذا التشفي بين المتطرفين المتدينين والملحدين؟
المتوفى في هذه الحالة مجرد صورة إسقاط، تتحول وفاته إلى طوطم أو صنم يثبت إحساسه بانتصاره على البعد المرفوض في نفسه، قد يكون المتوفى شخصا كان يعلن عن كونه "ملحدا"، وعدم تلاشي الحقد من نفس الحاقد قد يعود إلى كونه شخصا يقاوم دافعا قويا للإلحاد (على سبيل المثال لا الحصر) مرفوقا بإحساس شديد الألم من الذنب، وهذا مثال يمكن إسقاطه أيضا على الملحد الشامت في المؤمن المتوفى، فالقضية هنا ليست صراع الإيمان والإلحاد، بل صراع قبول أو رفض الاختيارات الشخصية الصعبة.
ما الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تحويل التشفي من سلوك فردي محدود إلى ظاهرة جماعية ذات تأثير واسع؟
على مدى أكثر من قرن، رصدت الدراسات النفسية-الاجتماعية سببين رئيسيين واضحين لتحول الجماهير إلى كيانات تنهش جثة متوفى، سواء بالفعل المادي أو الرمزي، الأول هو الإيحاء الآمر الذي يوقظ الغريزة البدائية لانتهاك المحرمات، وهو ما لوحظ في سلوك الشعوب القديمة تجاه الزعيم المتسلط على القبيلة.
الثاني هو فتح المجال أمام هذا الدافع من خلال إحساس الأمان الذي توفره الجماعة، يتحول البشر إلى كائنات بالغة الخطورة عندما يصبح فرد ما فريسة تحريض من قيادة تمارس إيحاء قويا يستهدف الجماهير.
الإيحاء، كما عبر عنه عالم النفس الاجتماعي جوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" (1895)، هو أداة تخاطب الغرائز المتوحشة الكامنة في النفس البشرية، وتطلقها في حالة من "السكر" النفسي الناتج عن الشعور بالحماية الجماعية. لوبون أشار إلى أن الجماهير، عندما تتحول إلى حالة انفعالية، تفقد قدرتها على التفكير العقلاني وتصبح أداة طيعة في يد من يمتلك القدرة على التحكم بها عبر الإيحاء، هذا الجمهور المتوحش قد يبدو فوضويا للغاية، لكنه يتمتع بانسجام داخلي في حماية أفراده بعضهم لبعض، مما يضمن استمرار طاقة التوحش حتى تنفيذ الأمر أو استنفاد الدافع.
في سياق وسائل التواصل الاجتماعي، قد لا تكون هذه الساحة واقعية بالمعنى التقليدي، مليئة بالأصوات والمثيرات الحسية المباشرة، لكنها، للأسف، تمتلك القدرة على خلق وحوش افتراضية مملوءة بالحقد، اللغة هنا تصبح وعاء يحمل هذا التوحش، الذي يظل شعورا بدائيا محروما من شرعية التعبير في الحياة الواقعية.
هل مواقع التواصل الاجتماعي هنا، تشعر المضطربين بالحصانة؟
دراسات حديثة في علم النفس الاجتماعي، مثل تلك التي أجراها زيمباردو في تجربة سجن ستانفورد (1971)، أظهرت كيف يمكن للبيئات التي توفر إحساسا بالحصانة أو إخفاء الهوية أن تطلق العنان للسلوكيات العدوانية الكامنة، ووسائل التواصل الاجتماعي توفر هذا الغطاء من خلال الحسابات المجهولة أو الدعم الجماعي الافتراضي، مما يعزز من قدرة الأفراد على التعبير عن نزعاتهم المكبوتة دون خوف من العواقب.
ماذا يعني الإسقاط في التشفي من هذا النوع بالضبط؟
يمكن الاستناد إلى نظرية "التنافر المعرفي" لليون فستنغر (1957)، التي تفسر كيف يسعى الأفراد إلى تبرير سلوكياتهم العدوانية عبر إسقاطها على هدف خارجي، مثل شخص متوفى، لتخفيف الصراع الداخلي.
في هذا السياق، يصبح المتوفى رمزا لكل ما يرفضه الحاقد أو يخشاه في نفسه، وبالتالي يتحول التعبير عن الحقد إلى طقس رمزي لتأكيد الذات. هذا السلوك انعكاس لصراع داخلي، ومرآة لاضطراب داخلي عميق، يتغذى على ديناميكيات القوة والخوف التي تحرك الجماهير منذ العصور القديمة وحتى العصر الرقمي الحديث.
لماذا يصل هذا الانحدار الأخلاقي إلى التشفي في شخصيات معروفة أنها مضطربة نفسيا؟
هذا السؤال يقربنا لما أردت قوله في الإجابة الأولى، تخيل أن تشتبك في جدال مع شخص غاضب جدا وأنت شديد الغضب، وعياكما لن يتواصلا إلا بقدر ضئيل، التواصل سيكون بين لاوعيك ولاوعيه، بين جزأين قديمين ومتوحشين منكما، ولكونكما شخصين طبيعيين، فستتوقفان عند حد معين وتتراجعان، لكن هذا لا يحدث عند الذين يعانون من "تثبيتات" نفسية مضطربة، أي أنهم مازالوا يعيشون دوامة لامتناهية من محاولة إثبات خاتمة قصة مستحيلة الوقوع.
عندما نشتبك في جدال مع شخص غاضب بشدة ونحن في حالة غضب مماثلة، فإن التواصل الواعي بيننا يصبح محدودا للغاية، ما يحدث فعليا هو تفاعل بين اللاوعي لدى الطرفين، حيث تستيقظ أجزاء بدائية ومتوحشة من النفس، هذه الأجزاء تعود إلى ما يسميه سيغموند فرويد "الهو" (Id)، وهو الجزء الأكثر بدائية في النفس البشرية، الذي يتحرك بالغرائز ويسعى للإشباع الفوري دون قيود أخلاقية أو عقلانية.
في حالة الأشخاص العاديين "الطبيعيين"، يتدخل "الأنا" (Ego) و"الأنا الأعلى" (Superego) لاحقا لضبط هذا الانفلات، مما يؤدي إلى التراجع عن الصراع عند حد معين. لكن الأمر يختلف مع الشخصيات المضطربة نفسيا، التي تعاني من "تثبيتات" (Fixations) أو نفسية لم تحل.
التثبيتات النفسية، تحدث عندما يعلق الفرد في مرحلة معينة من التطور النفسي نتيجة صدمة أو إحباط لم تتم معالجته، هؤلاء الأفراد قد يعيشون في دوامة لا نهائية من محاولة إثبات خاتمة مستحيلة الحدوث.
على سبيل المثال، شخص مضطرب نفسيا قد يكون عالقا في مرحلة الصراع مع سلطة ما داخل أسرته، فيسقط هذا الصراع على الآخرين في حياته، ويستمر هذا النمط حتى بعد وفاة الطرف الآخر، التشفي هنا فرح هوسي بزوال الخصم، لأنها تقترب من الحصول على تلك الخاتمة المستحيلة، ولن يحصل عليها بالتأكيد إذا قدم تعزية راقية في وفاة خصمه، إن المتشفي مضطرب على هذا الأساس.