إن من أعقد القضايا وأشدها خطورة على النسيج الاجتماعي والسياسي المغربي اليوم القضايا التي تتعلق بمكانة الإسلام على صعيد الدولة والمجتمع، وسلطته المرجعية رمزيا وأخلاقيا وإن خرج عنها الناس جزئيا أو كليا، فكلما أثار الواقع مسألة اجتماعية أو سياسية ذات صلة بما هو ديني، يُراد من خلالها تغيير أو تعديل ما تعارف عليه الناس دينيا، إلا وانتفض الناس، وقام عدد منهم مدافعين عن حمى الدين.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن أغلبية القضايا الدينية التي أثارها الواقع المغربي منذ الاستقلال وإلى اليوم هي قضايا بالأساس تتعلق بنظام المعاملات وأحكامه، وخاصة قضية الأسرة ومتعلقاتها. وإذا كانت هذه الحَمِيّة الدينية مظهر إيجابي في العمق، تعكس تعلق المغاربة بمصادر هويتهم الثقافية والاجتماعية، فإنها تعكس من ناحية أخرى تمزقا حادا على مستوى الشخصية المغربية، المتمثل في حيرة الإرادة وانقسامها بين الرغبة في الوفاء للتقليد والنزول على حكمه، والرغبة في القفز الحر إلى الأمام، وكسب رهانات التقدم.
إن النقاش الأخير حول مسألة التعصيب والإرث عموما -في هذا السياق- يعكس في العمق هذا التمزق، فالمسألة في الجوهر ليست نزاعا بين متدينين ولا دينيين أو بين تقدميين وظلاميين، بل المسألة في الأساس بين فريق لا يرى سبيلا للخروج عن حكم التقليد وخاصة ما ارتبط بنص قطعي، وبين فريق يفسح المجال لذلك، ويوسع مجال الاجتهاد في المعاملات إلى أقصى حد ممكن، ولا عبرة في الشاذ، ومن ثم من العيب والخطأ الشنيع -والحالة هاته- تحريف النقاش في هكذا موضوع وجعله بين متدينين غيارى على الإسلام وبين غيرهم أعداء الدين.
وإذا كانت وجهة نظر التقليد في قضايا المعاملات واضحة ولا تحتاج إلى مزيد بيان، وتدعو للإبقاء على الوضع في مجال الأحوال الشخصية على ما هو عليه، وتضيق مجال الاجتهاد إلى أقصى حد ممكن، حيث تجعله فيما وراء النص فقط، فإننا في هذه الزاوية سنحاول بسط وجهة نظر الفريق الثاني الذي لا يرى في النص مانعا من الاجتهاد، والذي نجد أنفسنا من أنصاره.
ولعل من القضايا الأولى التي يجب إيضاحها في هذا السياق، قضية الاجتهاد مع وجود النص القطعي الثبوت والدلالة، ذلك أن الكثير من قضايا المعاملات ومنها قضية التعصيب فيها أحكام نصية. يميل الكثير من الناس إلى الاعتقاد بأن «لا اجتهاد مع وجود النص»، ويسوقون في هذا الباب أقوالا، ومسكوكات لعلماء كبار. والواقع عند تأمل المسألة أن الأمر خلاف ذلك، فالاجتهاد المعتبر شرعا هو الذي يكون مع وجود النص، أما في غيابه فالاجتهاد تحصيل حاصل، وضرورة من الضرورات الفقهية، ولعل السبب في رفع البعض لشعار «لا اجتهاد مع وجود النص» ناتج عن استقرار مفردات وأحكام الشريعة في الماضي بصورة لم تظهر معها الحاجة إلى الاجتهاد في الأحكام النصية.
وبالرغم من ضعف أمثلة الاجتهاد مع وجود النص في تاريخ التشريع الإسلامي، فإن الاجتهاد في قطعيات الأحكام الشرعية من المعاملات التي نص عليها الكتاب أو السنة من منظور الأصوليين مباح ومتاح، عدا فيما سموه بالمُقدرات الشرعية (الحدود؛ الإرث؛ العدة؛ الطلاق..)، حيث منعوا تعليلها والاجتهاد فيها، وألحقوها بالعبادات، لكن السؤال الذي بحثت طويلا عن جواب مقنع عنه، فلم أظفر بشيء، هو لماذا هذا الاستثناء؟ لماذا المقدرات الشرعية دون غيرها من أحكام المعاملات غير قابلة للتعليل المصلحي، ولا يسمح بالاجتهاد فيها، مع أن صلتها بمصالح العباد والكليات الأخلاقية واضحة وقوية، شأنها في ذلك شأن سائر أحكام المعاملات الأخرى؟.
إن نصوص الإرث ورغم أنها من المقدرات، فهي من قضايا المعاملات القابلة للتعليل المصلحي ويمكن الاجتهاد فيها، والتصرف فيها، ومما يحسن استدعاؤه في هذا المقام اجتهادات كبار الصحابة وفي طليعتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، اللذان اجتهدا في قطعيات الشريعة، بما فيها المقدرات كما هو حال الخليفة عمر (ض) في حد السرقة، والإرث..
ومن ثم، وانطلاقا من هذه السعة الاجتهادية التي يتمتع بها الإسلام، والتي ألمحنا باختصار شديد إلى عناوينها، فإن مسائل توزيع الإرث، ومنها مسألة التعصيب قابلة للمراجعة، وإعادة النظر بما يحقق الإنصاف والعدالة بين الجنسين في ضوء التطورات الراديكالية التي عرفها الواقع الاجتماعي المغربي، ذلك أن مفهوم العدالة وحقيقتها تاريخية-نسبية، واختلالها في الواقع راجع لتطورات الحياة وليس إلى النص.
فإرث العصبة في أصله ثقافي، ومدني، من عوائد وأعراف العرب قبل الإسلام، حيث كان العصبة من الأعمام وإخوة الهالك (رجال).. يستأثرون بميراث الميت، ولا يعطون النساء شيئا (بنات الهالك، وزوجه)، وعند نزول الإسلام اشتكى بعض النساء إلى رسول الله هذا الحيف، فنزل القرآن وجعل للنساء نصيب لكنه أبقى على حقوق العصبة من الرجال، ومن ثم فالتعصيب من حيث جذوره من تقاليد البيئة العربية القبلية، التي كانت تقرن الانتفاع بالإرث بالرجولة والقدرة على حمل السلاح، فغير القادر على الحرب لا يرث، كما أنه كان يرتب على العصبة حقوقا اتجاه المرأة وعلى رأسها الإعالة والحماية الاجتماعية والاقتصادية، فالمرأة في حال الطلاق كانت تعود إلى أهلها (الأب، الأخ، العم..) ليتولوا سائر أمورها.
ما لا يلتفت إليه في هذا السياق هو: ما هو الأصل الأخلاقي الذي استند إليه الإسلام في إقرار حق المرأة في الميراث بعدما كان يؤول مجموع الإرث إلى العصبة؟ هل كان هذا النصيب المقرر نهائي وعلى سبيل التأبيد، بمعنى أنه من الثوابت، أم العكس أن إمكانية المراجعة واردة بالنظر إلى أصول الشريعة؟
في تقديرنا؛ إن الأصل في هذه المراجعة الثورية التي قام بها الإسلام لأحكام الإرث وتقاليده التي كانت سائدة قبل الإسلام، استندت إلى أصلين رئيسين: العدالة والتي جاءت فيها نصوص كثيرة ومنها قوله تعالى: ﴿وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمِرت لأعدل بينكم﴾؛ والمساواة بين الجنسين التي هي -أيضا- وردت فيها نصوص صريحة، وكثيرة، ومنها قوله سبحانه: ﴿وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقرٌ ومستودعٌ﴾.
وإذا كان الإسلام في بدايته وفي الأحكام التي أقرها نصاً حافظ على قدر من التمييز بين الجنسين وخاصة في حالة الإرث والتعصيب، فإن ذلك لا يجب أن يُفهم على أنه تمييز سلبي بين المرأة والرجل، أو أنه عين العدالة حيث يتمحل العقل والناس في إدراكها، كقول البعض أن المرأة بالمقابل تفضل الرجل في منازل وحالات أخرى، بل هو في الحقيقة نتيجة المفاوضة التي أقامها الإسلام مع الواقع، والممكن والمتاح واقعيا في المائة السابعة ميلادية، شأنه في ذلك شأن الرق حيث غاية الإسلام واضحة وهي الحرية، لكن حقائق النظام الاجتماعي التي تنزل فيه الإسلام كانت تمنع من تحقق هذه الغاية.
وهكذا؛ فالتعصيب كما غيره من المعاملات في أصله تقليد ثقافي عربي، تدخل الإسلام قيميا، وعدله بما تطيقه البيئة الإسلامية، فلم يكن بمستطاع التشريع الإسلامي إلغاؤه كلية، ولكنه أقر حدا أدنى من العدالة في حدود الإمكان التاريخي، وهذه المقاربة أصيلة في الإسلام، قارب بها كثيرا من المسائل.
ومن ثم، فانطلاقا من الكليات الأخلاقية والتشريعية للإسلام، وفي مقدمتها العدالة والمساواة، وبالنظر إلى الانقلاب الجذري في النظام الاجتماعي في البلاد الإسلامية بعد حوالي 1500 سنة عن وقوع هذا التشريع، انطلاقا من كل هذا يمكن مراجعة تشريعات الإرث، وتعديلها بما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها السامية، وعلى رأس هذه الأحكام التي يجب المبادرة إلى مراجعتها أحكام التعصيب.
إن الواقع الاجتماعي المغربي اليوم يؤكد مسيس الحاجة لمثل هذه المراجعة، فالأرقام التي نشرتها المندوبية السامية للتخطيط منذ أزيد من ثلاث سنوات (2014) تظهر أن حوالي مليون ومائتي ألف امرأة تعيل أسرا بالمغرب من إجمالي الأسر (سبعة ملايين أسرة)، وحوالي 70% من هؤلاء النساء من الأرامل والمطلقات..، الشيء الذي يدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء النسوة الذين كان يفترض في النظام الاجتماعي التقليدي أن يوفر لهن الحماية، ويتحمل مسؤولياتهن العصبة من الإخوة والأعمام..، هم في الحقيقة عراة من ذلك، ويلجأن للعمل لحماية أنفسهن وإعالة أسرهن.
لا عدالة أبدا في ظهور العصبة -اليوم- لحظة اقتسام الإرث من منظور الإسلام في ضوء المعطيات الجديدة للمجتمع المغربي، وانقلاب المجتمع في عظمته من القبيلة إلى المدينة، وغلبة الأسر الصغيرة والنووية في البنية الاجتماعية.
إن الطريق الوحيد لاستمرار الإسلام نافذا في المستقبل كدين اجتماعي ومعاملاتي، هو الاجتهاد في فحواه، وإعادة إنتاجه بما يوافق تحولات العصر، ومستجداته، وليس الجمود على أحكام، وأعراف، وعادات ثقافية.. من شأن التشبث بها إضفاء الطابع الوسيطي على الدين الإسلامي، وتقديمه للعالمين كبقايا تاريخ. ومن صميم هذا العمل التحول من مفهوم إسلام الأحكام إلى الإسلام الهدي.