على اعتبار أن المغرب يعاني من تحديات كبيرة في إدارة موارده المائية، يُعدّ التحول إلى نظام الري الموضعي خطوة استراتيجية هامة لتحسين استغلال المياه في الزراعة.
ويعتمد هذا النظام على تقنيات دقيقة لتوزيع المياه مباشرة إلى جذور النباتات، مما يقلل من الهدر ويحسن كفاءة استخدام المياه في ظل الظروف المناخية القاسية التي يشهدها البلد.
تحديات التحول إلى نظام الري الموضعي في المغرب
في هذا السياق، أفاد عبد الصمد ملاوي، الخبير في تكنولوجيا الطاقات المتجددة والأنظمة الحديثة والأستاذ الجامعي، خلال تصريح لـ "تيلكيل عربي" أن هناك عدة عوامل تعرقل التحول السريع نحو نظام الري الموضعي في المغرب، على الرغم من الأهمية الاستراتيجية التي يمثلها هذا النظام في إطار المخططات المغربية، سواء على مستوى تحقيق الأمن الغذائي أو الحفاظ على الموارد المائية. ومن بين هذه العوائق تبرز قلة الوعي والفهم التقني، إلى جانب غياب التأطير الفني المناسب.
وأشار ملاوي، إلى أن "العديد من المزارعين أو الفلاحين بصفة عامة يفتقرون إلى المعرفة الكافية بأهمية وفوائد هذا النظام، وكيفية استخدامه بشكل فعال لتطوير أساليب إدارة الموارد المائية. كما أن هناك نقصًا واضحًا في الخبراء والمؤسسات المحلية القادرة على تقديم الدعم اللازم للمزارعين، حيث يعاني هذا المجال من ضعف في التأطير ونقص في إيصال المعلومات الحديثة بشكل خاص إلى المزارعين والمستثمرين في هذا القطاع. ويتجلى ذلك في ضعف مواكبة المزارعين، سواء من حيث توفير المعلومات أو دعم عمليات التركيب والصيانة، مما يؤدي إلى استمرار الاعتماد على أنظمة الري التقليدية".
وذكر الخبير في التكنولوجيا أنه "من بين الأسباب المهمة الأخرى، التكلفة المرتفعة للتجهيزات والبنية التحتية المتعلقة بنمط الري الموضعي، حيث إن تركيب هذه الأنظمة في القطاعات الفلاحية بالمغرب يتطلب استثمارات كبيرة تفوق قدرة صغار الفلاحين على تحملها. وهذا يجعل من تعميم هذه الأنظمة على مختلف القطاعات الفلاحية تحديًا كبيرًا، خاصة وأن القطاع الفلاحي كان إلى وقت قريب يُعد من الموارد الاقتصادية الأساسية للبلاد. لذا، يصعب على الفلاحين، وخصوصًا الصغار والمتوسطين منهم، الاستثمار في هذه المعدات التي تتطلب تقنيات وإمكانات ليست بالسهلة".
ونوه الملاوي، إلى أن ضعف التمويل والدعم الحكومي يمثل عاملاً ثالثًا يؤثر سلبًا على هذا القطاع، حيث إن البرامج التي تم إطلاقها رغم تعددها، أظهرت محدوديتها وعدم فعاليتها، خاصة بالنسبة لعموم المواطنين. كما أن قلة الموارد المالية المخصصة لتشجيع استخدام نظام الري الموضعي، إلى جانب غياب قروض ملائمة وضعف الدعم في تبسيط المساطر الإدارية وتوفير المعلومات الضرورية، حالت دون وصول هذه التكنولوجيا إلى المزارعين.
وتابع قائلا إن الأمية التقنية والإدارية التي يعاني منها العديد من الفلاحين تعمّق هذه الإشكالية، مما يجعل من الصعب تبني هذا النظام واستخدامه بشكل فعال على أرض الواقع.
وأوضح الخبير أن "هناك عاملاً آخر يؤثر بشكل كبير، يتمثل في المساحات الزراعية الواسعة والمتفاوتة، حيث تتسم بعض المناطق بتضاريس صعبة تجعل من الصعب إيصال هذه التقنيات الحديثة، مثل نظام التنقيط، إلى جميع المناطق. فالمناطق الجبلية والمناطق ذات الطبيعة الوعرة تعاني من صعوبة وصول المياه إليها، إضافة إلى التفاوت الكبير بين المناطق من حيث نوعية التربة وإمكانية الوصول إليها. كل هذه العوامل تجعل تعميم التقنيات الحديثة أمرًا بالغ الصعوبة، بل ومستحيلاً في بعض الحالات.
ولفت الملاوي، إلى أن هذه الأنظمة تشهد تطورًا مستمرًا، إلا أن تطور الوعي والمعلومات والمواكبة لا يسير بنفس وتيرة تقدم التكنولوجيا. لذا، من الضروري أن تكون هناك استراتيجية جديدة من قبل الوزارة والمكاتب المكلفة بالإرشاد الفلاحي، بالإضافة إلى التعاونيات والجمعيات التي تهتم بتقريب هذه الخدمات إلى الفلاحين. الفلاح، باعتباره المستفيد الأساسي، يجب أن يكون محور هذه الاستراتيجيات، سواء من أجل الاستفادة من هذه التقنيات أو من أجل استثمارها بشكل فعال. هذه هي الأسباب الرئيسية التي تعيق التحول نحو نظام الري الموضعي.
وبين الملاوي، أن هذه ليست التكنولوجيا الوحيدة المتاحة حاليًا، بل هناك تقنيات أخرى أكثر تطورًا وكفاءة. ولذلك، يجب على المغرب، من خلال الوزارة والهيئات المعنية، أن تشجع الفلاحين على الانخراط في استخدام هذه المعدات والتقنيات الحديثة. وأشار إلى أن هناك مسألة أخرى تتمثل في غياب المعلومات، وعدم الشفافية، وانتشار البيروقراطية في الإدارات المعنية، مما يؤثر سلبًا على قدرة الفلاحين على الحصول على المعلومات أو التقنيات أو الملفات اللازمة للاستفادة من الدعم أو التعويضات. هذا الوضع يعوق الفلاحين ويجعلهم يبتعدون عن استخدام التقنيات الجديدة، مفضلين الاعتماد على الأساليب التقليدية التي أثبتت عدم جدواها في إدارة المياه بشكل فعال.
قنوات المياه المحدثة رؤية لمستقبل مائي مستدام
فيما يتعلق بتسريع تحديث قنوات نقل المياه من السدود، لفت الخبير إلى أنه يتطلب تنفيذ مجموعة من الخطوات والإجراءات الفعّالة. أولاً، يجب تطوير البنية التحتية، إذ لا تزال تعتمد العديد من القنوات على أنظمة تقليدية، مما يستدعي استبدالها بأخرى أكثر كفاءة وأقل هدرًا. يفضل استخدام قنوات مغطاة وأنابيب مضغوطة لتقليل التبخر والتسرب، مما يزيد من كفاءة النظام بشكل عام.
ثانيًا، شدد الخبير على أهمية تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث يُلاحظ أن القطاع الخاص غالبًا ما يكون بعيدًا عن الاستراتيجيات الوطنية. لذا، من الضروري تعزيز هذه الشراكات لإشراك المستثمرين والشركات الخاصة في مشاريع تحديث وتحسين النظام المائي.
واستطرد الخبير أن استخدام التكنولوجيا الحديثة أصبح ضرورة ملحة في هذا السياق، حيث يفرض نفسه بشكل متزايد. يشمل ذلك تطبيق أنظمة الاستشعار والمراقبة المتقدمة للكشف عن التسريبات باستخدام التقنيات الرقمية والتكنولوجيات الحديثة، مما يساهم في تحسين توزيع المياه بشكل أكثر كفاءة ويحد من الهدر. وأكد أن هذه الأنظمة تهدف إلى ضمان توزيع المياه في أقصر وقت ممكن وبأعلى درجة من الفاعلية. وأضاف أن هذه المتطلبات التكنولوجية والرقمية أصبحت من الأولويات التي يجب إدخالها في هذا القطاع، خاصة في ظل انخراط المغرب في عدد من المشاريع الاستراتيجية التي تركز على الرقمنة واستخدام التكنولوجيات الحديثة، بما في ذلك الاتصالات اللاسلكية، لتعزيز كفاءة استغلال الموارد المائية.
ونوه الخبير إلى أن من بين الآليات المهمة أيضًا دعم التمويل المستدام من خلال تخصيص ميزانيات أكبر مما هو عليه حاليًا، وذلك للاستفادة من فرص التمويل التي تقدمها بعض المنظمات الدولية أو الدول المانحة. كما أن هذه الفرص التمويلية موجهة إلى المشاريع المتعلقة بالمناخ والطاقة والمياه، وهي فرصة مهمة لتعزيز قدرة القطاع على مواجهة التحديات وتحقيق استدامة الموارد.
وشدد الخبير ملاوي، على أن مسألة التوعية تعد من الركائز الأساسية لتسريع تحديث قنوات نقل المياه وتحسين كفاءتها. حيث أن الفلاح أو المزارع والمجتمع بشكل عام يجب أن يكونوا شركاء في هذه العملية، فالفرد، سواء كان مستهلكًا أو مستثمرًا، يجب أن يتمتع بوعي كافٍ لحماية القنوات الحديثة وضمان استدامتها وكفاءتها وجودتها.
أكد على ضرورة توعية المجتمع عبر برامج إعلامية تشمل التلفزيون والإذاعة والمناهج التربوية، إلى جانب تنظيم تكوينات دورية تستهدف الفلاحين وتنفذها المؤسسات المعنية أو الجمعيات المتخصصة، التي تتلقى تمويلًا لدعم جهود التوعية والتحسيس والتكوين. وأشار إلى أهمية دعم البحث العلمي لتطوير بدائل أقل تكلفة وأكثر كفاءة، بما يتناسب مع خصوصيات المغرب ويسهم في تحسين تدبير قنوات المياه.
استراتيجيات تقليص الاعتماد على المياه الجوفية في المغرب
فيما يخص الإجراءات اللازمة لتقليص الاعتماد على المياه الجوفية في الزراعة وتجنب استنزافها، أكد الخبير أهمية اتخاذ تدابير عملية تشمل ضبط استغلال المياه الجوفية وتنظيم التزود بها. وأوضح أن هذا يتطلب فرض قوانين صارمة وواضحة تسعى إلى الحد من الحفر العشوائي والاستغلال غير المسؤول للمياه الجوفية، الأمر الذي يسبب أضرارًا بيئية كبيرة، كما يتجلى في العديد من الممارسات غير المسؤولة.
لفت الخبير، إلى أهمية تعزيز استخدام المياه السطحية عبر تطوير أنظمة التخزين واعتماد الري من السدود والأنهار. وأوضح أن هذه المياه، ورغم أهميتها، تعد الأكثر عرضة للندرة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وسهولة استغلالها. لذا، شدد على ضرورة التعامل مع هذه الموارد بحكمة ووعي لضمان استدامتها، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي قد تواجهها في السنوات المقبلة.
في سياق متصل، قال ملاوي: "بالإضافة إلى ضرورة انخراط المغرب في الزراعات المستدامة، فإن التغيرات المناخية تفرض علينا تغيير نمط الزراعة التقليدي من خلال إدخال محاصيل تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وأخرى لا تستهلك المياه بكميات كبيرة، بما يتماشى مع التغيرات المناخية ويسهم في التحول نحو زراعة تتطلب كميات أقل من المياه. ومن جهة أخرى، أكد على ضرورة العمل على إعادة استخدام المياه العادمة، وهي من الركائز الأساسية التي تضمنتها الاستراتيجية الوطنية للماء والمخطط الوطني للماء."
وذكر ملاوي، أن نسبة استغلال المياه العادمة في المغرب لا تتجاوز 20 بالمائة، مما يستدعي إنشاء محطات لإعادة تدوير ومعالجة المياه لاستخدامها بشكل رئيسي في الري. وهذا من شأنه تقليل الضغط على الموارد المائية الجوفية والسطحية التي ينبغي تخصيصها للاستخدامات المتعلقة بالشرب.
وأضاف الخبير أنه من الضروري أيضًا سن مجموعة من البرامج التدريبية والتوعوية لتدريب الفلاحين على تقنيات الري الفعالة والمستدامة بهدف الحد من هدر المياه، وضمان الاستغلال الأمثل للمياه السطحية التي يجب أن تُستخدم بشكل معقلن وفي الحالات الضرورية فقط، خصوصًا في المناطق التي تفتقر إلى بدائل لتوفير المياه الصالحة للشرب.
وأفاد ملاوي أن مسألة أخرى تظل هامة وهي ضرورة الاستمرار في تعزيز انخراط المغرب في مشروع المحطات لتحلية مياه البحر. ورغم أن تكلفتها مرتفعة بسبب استهلاك الطاقة الذي يزيد من التكاليف، إلا أنها أصبحت ضرورة ملحة، إذ توفر المياه سواء الصالحة للشرب أو للري. ومن خلال هذا التوجه، سيتم التخفيف من الضغط على الموارد المائية السطحية والجوفية بشكل عام.
واختتم حديثه قائلاً إنه من الضروري تعزيز الدعم الحكومي لهذه الاستراتيجيات التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على المياه الجوفية في الزراعة واستعمال موارد مائية أخرى. وأوضح أن تنفيذ هذه المشاريع يتطلب إمكانيات كبيرة، إذ أن إنشاء محطات التحلية أو معالجة المياه العادمة يتطلب بنية تحتية قوية، تمويلًا مناسبًا، تشريعات واضحة، بالإضافة إلى توفير اليد العاملة المختصة وإجراءات تنظيمية فعّالة.