قال محمد الناجي، رئيس شعبة هندسة الصيد وتربية الأحياء المائية والخبير الدولي، إن المغرب يمتلك تجربة طويلة جداً في استزراع الأسماك في المياه العذبة. وتعود أصول هذه التجربة إلى فترة الحماية، عندما قام الفرنسيون بإدخال عدد من الأنواع التي لم يكن المغرب موطنها الطبيعي، مثل سمك "الفروتة" وغيره من الأنواع، وكان الهدف من ذلك هو الترفيه والصيد الرياضي وليس الأمن الغذائي.
وأوضح في تصريح لـ"تيلكيل عربي" أن مجموعة من الأنواع دخلت، مما شكل انطلاقة للاستزراع السمكي القاري، خاصة مع المركز المشهور "أزروا" الذي يشرف على إنتاج الفراخ الصغار. مضيفا أن بعض الأنواع لم تكن لها القدرة على التوالد بشكل طبيعي، فكان المركز يقوم بتأطير عملية التوليد، ويترك الفراخ في المجاري والبحيرات من أجل تنشيط الصيد الترفيهي والرياضي. وهذا هو أصل هذا النشاط الذي استمر إلى الآن، حيث تقوم المياه والغابات سنوياً بإنتاج عدد من اليرقات وفراخ الأسماك، وتتركها في السدود والأنهار والبحيرات لتكون مصدراً لأنشطة الصيد الرياضي والترفيهي.
وأضاف أن الوزارة، موازاة مع ذلك، بدأت في السنوات الأخيرة بالعمل على أنواع أخرى، مثل السمك البلطي، حيث بدأت تنتجها وتتركها في البحيرات والسدود لتكون مصدر رزق لعدد من الصيادين الصغار. وهذا يدخل في سياق تطوير النشاط ودعمه بشكل أكبر.
وقال، في ما يخص الاستزراع السمكي التجاري، إنه بدأ يبرز منذ أكثر من 10 سنوات بهدف إنتاج مجموعة من الأنواع السمكية وتسويقها على مستوى الأسواق لغرض تجاري. ومع الأسف، هناك عدد قليل جداً من الشركات التي بدأت تنتج بعض أنواع الأسماك القارية من أجل إعدادها للسوق. ومع ذلك، لا يزال الإنتاج التجاري محدوداً جداً، حيث لا يتجاوز سنوياً 1000 طن.
وفي السياق ذاته، أفاد أن الإنتاج العام للأسماك القارية، حسب إحصائيات للوكالة الوطنية للمياه والغابات، يُقدر بحوالي 15 ألف طن سنوياً. ومع ذلك، يشمل هذا الإنتاج أنواعاً أخرى تُصطاد من قبل الصيادين الصغار في الأنهار. ولكن التربية بمفهومها التجاري لا تزال في حدود ضئيلة جداً.
وأشار إلى أنه منذ سنتين، وبعد إحداث الوكالة الوطنية للمياه والغابات، تم وضع استراتيجية وطنية جديدة تعرف بالنموذج الجديد للصيد القاري وتربية الأحياء المائية. هذه الاستراتيجية تضمن رؤية جديدة تهدف إلى تطوير الصيد والاستزراع المائي في المياه القارية.
ولفت إلى أن المغرب يعاني، منذ سنوات طويلة، من الجفاف المزمن، وبالتالي بدأت إشكالية تقلص عدد من مصادر المياه، خاصة على مستوى العيون والتساقطات المطرية والثلوج. نتيجة لذلك، تراجعت حقينة السدود، وبدأت العديد من الأنهار تنضب. هذا الوضع طرح إشكالية في التصور السابق المتعلق بالإنتاج على مستوى العيون والأنهار، حيث أصبح من الضروري إعادة النظر فيه، نظراً للجفاف وتراجع مصادر المياه.
في سياق متصل، قال إنه في ظل الظروف التي تتسم بالجفاف، كان التحدي كبيراً في تنمية استزراع الأسماك على المستوى القاري. وبعد العديد من الدراسات المقارنة، تبين أن هناك على مستوى العالم مقاربة جديدة تهدف إلى تقليص الاعتماد على المياه.
وذكر أن النموذج الأول متمثل في نظام الاستزراع السمكي الدائري، حيث أصبح هناك نمط جديد بدلاً من النمط السابق. في هذا النظام، يتم إعادة تدوير المياه عبر مضخة، ثم تمر عبر مصفاة بيولوجية لتصفيتها من السموم، ليعود الماء إلى الحوض. وبالتالي، يتم تقليص استعمال المياه بنسبة 80 بالمائة. وأكد أن هذا النظام أصبح موجوداً في المغرب وله مستقبل واعد.
وفي ما يتعلق بالنموذج الثاني، الذي يتضمن اللجوء إلى المياه غير التقليدية، مشيرا إلى مثال سد "سيد الشاهد" القريب من مدينة فاس. عندما تم بناء السد لأول مرة، كان الهدف منه توفير مياه السقي لعدد من المساحات الواقعة بين سكوطة وفاس. ولكن بعد بناء السد، تبين أن المكون الجيولوجي للسد يحتوي على مناطق بها صخور ملحية، مما أدى إلى تسرب الأمطار إلى السد وزيادة نسبة ملوحة المياه.
وتابع قائلا: أصبح السد غير صالح للزراعة رغم كونه استثماراً ضخماً. ونتيجة لذلك، جاءت فكرة وكالة المياه والغابات للاستفادة من السد في الاستزراع السمكي، وأصبح المشروع الآن ناجحاً ومتنامياً، حيث تم خلق عدد من مناصب الشغل، وأصبح هناك مطاعم على ضفافه.
وأفاد الناجي، أن المحور الثالث يتعلق بالاستزراع السمكي المندمج مع الزراعة. وأوضح أن المغرب، من خلال مخطط المغرب الأخضر، استثمر آلاف الملايير كدعم للفلاحين من أجل تجهيز أنظمة الري الاقتصادية، مثل الري بالتنقيط. هذا الاستثمار في المزارع أو الاستغلاليات يقتضي أن يقوم الفلاح بتجهيز الأحواض لتجميع المياه.
وأضاف أن هذه الاستثمارات الضخمة أدت إلى وجود عشرات الآلاف من الأحواض المتوفرة الآن في المغرب، والتي تُستخدم سنوياً، خاصة في الفصول الساخنة بدءاً من الربيع وحتى نهاية فصل الصيف، لأغراض السقي.
واستطرد قائلاً: "جاءتنا الفكرة في إطار البحث العلمي وفي مجال المقارنات، حيث قمنا بمشروع أولي لتجربة كيفية استغلال تلك الأحواض في الاستزراع السمكي، وقد نجح المشروع. بعد ذلك، اقترحنا هذا النموذج على مستوى الاستراتيجية الوطنية للمياه والغابات وتم تبنيه كمحور أساسي سيكون له انعكاس كبير جداً على مستوى الإنتاج السمكي القاري. لأن هذا النظام يحتاج إلى استثمارات لبناء الأحواض، وكل شيء متوفر بالفعل. وبالتالي، تم إدخال الأسماك في شهري أبريل وماي، ويتم جني المنتوج في شهر نوفمبر، مما يجعل دورة الإنتاج قصيرة، وهو أمر إيجابي."
وأضاف: "كما أن هذه الدورة تتزامن مع الفصول التي تكون فيها الحاجة إلى المياه للسقي، مما يخلق توافقاً إيجابياً بين دورة إنتاج الأسماك ودورة الري. هذه الفكرة جربناها، والآن الوكالة الوطنية للاستزراع السمكي تعمل على وضع مفرخات لإعداد صغار الأسماك في عدد من الجهات في المغرب، لتزويد الفلاحين. وهذا النموذج سيزداد قوة وتوسعاً".
وأشار إلى أن هذا النموذج سيكون نموذجاً واعداً وله إيجابيات كبيرة. أولاً، استثماراته ضئيلة لأنه يعتمد على مشروع قائم بالفعل. ثانياً، يتيح لنا إنتاج بروتينات حيوانية ذات جودة ممتازة داخل مناطق المغرب. ثالثاً، هذه المقاربة ستمكننا من تحقيق تثمين أفضل للمياه التي أصبحت مصدرًا نادرًا.
واختتم حديثه قائلاً: "لا يمكن تطوير استزراع الأسماك إلا في إطار منظور تكاملي مع الزراعة أو من خلال استخدام بعض المياه التي تصلح للزراعة، بما يسمى المياه غير التقليدية. كما يمكن استخدام المياه التي لا تصلح للزراعة في بعض المناطق التي لا تزال فيها نسبياً وفرة في المياه، وخاصة في المنطقة الشمالية للمغرب، في أماكن مثل تطوان، شفشاون، وأصيلة."