يعتقد العربي الجعيدي، الخبير الاقتصادي والأستاذ جامعي وكبير الباحثين بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد وعضو الجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، أن هناك نقطة عليها اتفاق شمولي بين جميع الأطراف والفئات الاجتماعية، وهي أن هذه الأزمة الحالية صدمة متعددة الأبعاد.
ويوضح أستاذ علوم الاقتصاد والمستشار السابق للوزير الأول والخبير المستقل في الهيئة المغربية لمكافحة الفساد والرئيس السابق لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، و العضو المؤسس للمركز المغربي للظرفية الاقتصادية أن الصدمة صحية، "من خلال القلق الذي يشعر به المواطنون حول خطورة هذا المرض أو الفيروس". ويضيف أنها "صدمة اجتماعية كذلك نظرا لأن هناك ارتباك في تنظيم الاقتصاد الوطني، وبالتالي، في ما يخص الشغل والمداخيل الاجتماعية للفئات التي تشتغل أو الفئات المهمشة".
ويعتبر أنها كذلك "صدمة اقتصادية بالنسبة للإنتاج المنتظر الآن وإشكالية الانكشاف على الخارج والانخراط في الاستهلاك... إلخ".
والصدمات الثلاث تطرح، بالنسبة إليه "أسئلة عميقة في ما يخص النظر للمستقبل، وحول المنطلقات الجديدة التي ينبغي الارتكاز عليها لتقويم أولا نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدنا وكذلك ذلك لتحديد بعض الطموحات وبعض الغايات البعيدة والقريبة المدى للخروج من هذه الأزمة".
وبالنسبة إليه شخصيا، "هذه الأزمة توضح أن هناك تزايدا في الوعي حول بعض السلبيات في نمط النمو الراهن، وطبعا مسيرة النمو في المغرب قدمت نتائج إيجابية على عدة واجهات، ولكن هناك سلبيات على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى هشاشة الاقتصاد، وعلى مستوى موقع المغرب في النظام الاقتصادي الدولي بصفة عامة، بل في موقعه في مستقبل النظام العالمي، وبالتالي لابد من التفكير في ماهية الغايات البعيدة التي ينبغي أن يكون حولها إجماع لتجاوز هذه الأزمة، أولا في ما يخص الإشكالية الأولى الأساسية وهي تنمية قدرات الإنسان، سواء في ما يخص الجانب الصحي أو في ما يخص الجانب التكويني، أي نتحدث عن إنسان قادر على مواجهة بعض الأزمات في ظرفية ملائمة".
ويتساءل المتحدث بعد ذلك عن ماهية "الإرادة المتجددة للتنمية التي ينبغي تركيزها في المغرب، انطلاقا، أولا، من ترسيخ أسس نظام سياسي قوي وتعميق متطلبات التماسك الاجتماعي، لأن المشكل الذي يعاني منه المجتمع المغربي في هذه الصدمة هو خطورة تفكك هذه التركيبة الاجتماعية في المغرب والتماسك الاجتماعي بصفة عامة".
ويقر أن "هناك تدابير متعددة اتخذتها الدولة لمواجهة الأزمة وهي تدابير إيجابية للمواجهة الفورية للوضع الاجتماعي ووضع الشركات كذلك لضمان قدراتها لانطلاقة جديدة في المستقبل. ولكن هذه الاتجاهات الآنية الأساسية ينبغي أن تعزز من خلال سياسات جديدة على مستوى الوعي بتكوين قاعدة إنتاجية صلبة، وفي خلق نظام اقتصادي مختلط، وفي نوع من إدماج الفئات الاجتماعية الهشة في عمل إنتاجي فعلي من خلال الشغل والتكوين".
وتتطلب منا هذه الأزمة كذلك، يقول الجعيدي، "النظر في ما يخص القيم الاجتماعية التي ينبغي أن يرتكز عليها تصورنا لمستقبلنا وهي قيم العمل والإنتاج، وقيم التضامن، وهذه قيم أساسية، من خلال طريقة تدبير آليات الاقتصاد وطريقة تدبير آليات المجتمع بصفة عامة من طرف الدولة وفي إطار العلاقة ما بين الدولة والمجتمع ينبغي أن تكون دائما في أفق عملنا وفي أفق تصورنا".
وحول مساءلة هذا الواقع اليوم للجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي هو عضو فيها، يرد الجعيدي "لا يمكنني أن أنطق باسم اللجنة. أنا عضو فيها، ولكن اللجنة لها آلياتها ولها من ينطق باسمها، قد يكون أنا أو غيري حسب الظرفية أو الموضوع، ولكن السؤال يطرح لكل مواطن في الحقيقة ولكل متتبع للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، وليس فقط إشكالية تتناولها لجنة لها مسؤولية معينة. صحيح أن هذه اللجنة من المسؤوليات المنوطة بها ما هي الاختيارات أو التوجهات التي يجب إعادة النظر فيها لجعل نموذج اقتصادي المغرب المستقبلي قابل على الإجابة على عدد من التحديات التي يعرفها المغرب وكذلك إصلاح ما ينبغي إصلاحه في عدد من الواجهات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها بلادنا".
وأوضح "طبعا اللجنة اشتغلت في هذا الإطار أو في هذا التصور، والصدمة كانت غير منتظرة ولكن التساؤل العميق في ما يخص نموذج التنمية وكيف يمكن أن يواكب الحاجيات الأساسية للإنسان المغربي وأن يجعل من الإنسان المغربي هو المركز الأساس لكل أفق لأي استراتيجية سواء كانت قطاعية أو شمولية، هذا كان عمل اللجنة منذ انطلاقها. الصدمة فقط عرّت بعض الهفوات أو مجموعة من الارتباكات أو من الاتجاهات التي ينبغي إصلاحها وتقويمها أو بعض الإصلاحات التي هي قيد التطبيق ولكن ليس بالسرعة اللازمة، كعدد من الواجهات، مثلا في مجال الحماية الاجتماعية. فمنذ حوالي سنتين ونصف تقريبا هناك لجنة حكومية تفكر في إصلاح نموذج التغطية الاجتماعية، سواء من خلال توسيع قاعدته أو آلياته أو كذلك الاهتمام بالفئات الاجتماعية الهشة التي هي الآن خارج هذا النظام الاجتماعي وكيف يمكن أن يشملها هذا النظام. هذا التوجه كان دائما في صلب التفكير في اللجنة وفي صلب تفكير الحكومة الحالية، إذن الأساسي هو كيف التعجيل به واختيار التصور المناسب والصيغة المناسبة لهذا النظام الاجتماعي ليكون مبنيا على مرتكزات صلبة وأن يصمد أمام بعض التحديات الناتجة عن ارتباكات اجتماعية أو غيرها وتغطية جميع الفئات الاجتماعية الهشة التي تبقى متعددة الأصناف. هناك من ليس له دخل قار وهناك من ليس له عمل مستمر... وهناك عدد من الفئات التي ليس لها دخل أو فئات معوزة من النساء أو المطلقات أو اللواتي فقدن المعيل لحاجياتهن الأساسية، وكذلك الأطفال والشباب الذين يعانون من عدة ظواهر اجتماعية خطيرة بالنسبة لمستقبلهم"...
وشدد على أن "الموضوع كان في صلب اهتمام اللجنة، سواء في الجانب الاقتصادي والاختيارات الأساسية التي سار عليها المغرب وما أعطت تلك الاختيارات، الإيجابي فيها يجب تعزيزه وتقويمه وما هو سلبي يجب إصلاحه، في ما يخص مثلا الانفتاح الاقتصادي للمغرب على الخارج، وهذا لا يمكن أن نقول إنه أعطى نتائج سلبية فقط وبالتالي ينبغي إعادة النظر فيه من خلال نوع من الحمائية. لا، من الحاجيات الأساسية لكل نمو طويل المدى هو أن يكون اقتصاد بلد ما منفتحا على الخارج ولكن هذا الانفتاح له شروط معينة، في طريقة تدبيره، في حكامة تدبيره، في قدرة البلد على مواجهة التنافسية على المستوى العالمي وهذا ما يتطلب من النظام الاقتصادي أن تكون له قاعدة إنتاجية صلبة على مستوى القطاعات الأساسية كالصناعة والفلاحة... وبناء نظام اقتصادي يكون مختلطا ويرتكز على تعدد الأنشطة لمواجهة كل ظرفية تكون ناتجة عن أزمة قطاع معين".
وبالنسبة للجانب الاجتماعي، يعتبر الجعيدي أن "صلبه هو ما هو الإصلاح الذي يجب القيام به لجعل منظومة الحماية الاجتماعية تكون منظومة شاملة ممولة بآليات مضبوطة توفر لها الموارد الأساسية للاستمرار طويل المدى، وليس في أفق 4 أو 5 سنوات فقط، ونقع في أزمة معينة من قبيل ألا تجد التغطية الطبية تمويلا أو ما يقع حاليا لأنظمة التقاعد"...
وفي ما يخص التفكير في الأفق، يتساءل المتحدث "ما هي طموحاتنا وماهي القيم لتي ينبغي أن يرتكز عليها تصورنا وآليات التواصل بين الأطراف وجعل هذا النظام يكون مبنيا على حكامة جيدة وعلى احترام الحريات الفردية وعلى ضبط القوانين الاقتصادية والاجتماعية لتكون في خدمة حاجيات المجتمع؟ هذا الجانب القيمي، في ما يخص كما قلت قيم العمل، قيم التضامن، قيم الحرية وقيم الشفافية، ضروري لكل نمط تنموي تكون له الآليات الأساسية التي تجعل المجتمع يتملك هذا النمط ويشارك فيه ويواكبه لبلوغ الأهداف المتوخاة على المستوى المجتمعي"...