وجد المغاربة أنفسهم بين ليلة وضحاها قيد الحجر الصحي، ملزمين بالمكوث في المنازل، حالهم حال ثلث سكان الأرض، في سيناريو لم يسبق أن تنبأ به أكبر المتشائمين، حظر تجوال مدني، ضد فيروس خفي، قلب الموازين وفرمل نشاط البشر، واهتز روتين المعاش اليومي.
ولأن الحرب على فيروس كورونا المستجد تضم معارك على جبهات كثيرة، من الوقاية والغسل والتقيد بالنظافة إلى تسابق المختبرات على إيجاد اللقاح، فإن معركة خفية تغلي في صدور الناس. هي معركة نفسية، بالدرجة الأولى، ضد الخوف والقلق، وتدبير الحجر الصحي، كيف يتعامل المغاربة مع هذا "الاستثناء"؟ كيف يتعاملون مع الأخبار والأطفال والمسنين. ما هو الدليل النفسي النافع في زمن الطوارئ الصحية والجائحة؟
يدعو طبيب الأمراض النفسية أيمن قشوشي إلى تجنب السقوط في فخ الخوف المرضي، خلال الجلوس في فترة الحجر الصحي، "خاصة أن هناك فرقا كبيرا بين الخوف المعقلن الذي يدفعنا إلى الحذر وتبني أساليب وقائية، والخوف المرضي".
الخوف المعقلن
وفق الطبيب النفساني، يتطلب تدبير فترة الحجر الصحي اعتماد مجموعة من الاحترازات، لتجنب السقوط في الخوف المرضي، ويقدم دليلا نفسيا للتعامل مع الوضع الاجتماعي والنفسي الذي تمر به البلاد.
ويشرح قشوشي، لـ"تيلكيل عربي"، أن "الخوف إحساس طبيعي وعاد، مبني على أفكار ويظهر على شكل سلوك، والخوف المعقلن مطلوب، لأنه يدفعنا إلى حماية أنفسنا، وبالتالي، فالخوف طبيعي ومطلوب، غير أن الإشكال يتجلى في كون فيروس 'كوفيد19'، وهو سبب الهلع، ظهر بشكل مباغت وفي وضعية غير متوقعة وغير واضحة في تطورها ومعالمها. كل ما هو متأكد منه أنه يحمل خطرا مهددا للإنسان".
ويضيف قشوشي أن "الضغوط النفسية والقلق المفرط تتولد أيضا من الاطلاع المكثف على المعلومات الخاطئة، التي تزعزع الثبات النفسي وتجعل الشخص يقع في خوف مرضي، هو خوف استباقي مرتبط أساسا بتفكير سوداوي يقود إلى الكارثية ارتباطا بالمستقبل، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى نوبات الهلع".
ويرى الطبيب النفساني أن "تنامي الخوف هو نتاج تطور متسلسل للأحداث التي تخص هذه الجائحة"، ويقول "في بدايات انتشار فيروس كورونا المستجد في الصين، استعمل بعض المغاربة ردود فعل دفاعية معنية، تحولت في ما بعد إلى حالات تنمر من العرق الآسيوي، وقد كانت السخرية كبيرة من كورونا، من قبيل أنها لن تنال من المغاربة، وهذا لديه ارتباط أساسا ببراديغم 'الاستثناء المغربي'، ليجد كثيرون أنفسهم تحت القيد الصحي وفي زمن حظر التجول، إنها صدمة نفسية بالفعل، لهذا يجب علينا استغلالها بشكل إيجابي".
المعلومة والكذبة
ينصح الطبيب النفسي قشوشي بـ"ضرورة أخذ المعلومة الصحيحة من المصدر الصحيح، وأن نتجنب السقوط في إدمان المعلومات حول الفيروس 24 ساعة على 24، والاكتفاء بالاطلاع على آخر الأخبار، مرتين في اليوم فقط"، ويقول "هذا ما نهجته وزارة الصحة مؤخرا، فبعد أن كانت تعمد إلى تحيين عدد المصابين ثلاث مرات في اليوم، لجأت إلى تواصل يومي واحد في المساء. كما يجب البحث عن معلومات في اتجاه آخر، بعيدة كل البعد عن الفيروس والجائحة، كما يُنصح بتجنب الإشعارات الخاصة بالأخبار عبر الهواتف الذكية".
ويشدد قشوشي على أنه يجب الحفاظ على روتين يوم عاد، وأن تظل أوقات الاستيقاظ في موعدها المعتاد، مع احترام توقيت وعدد الوجبات، خاصة بالنسبة للأطفال، والحفاظ على نمط عيش طبيعي، داعيا إلى تواصل إيجابي مع العائلة بعيدا عن أخبار "كوفيد19".
عودة إلى الأسرة
يرى قشوشي أن ظرف الحجر الصحي "فرصة لاكتشاف أولويات جديدة، وإعادة النظر في مجموعة من المفاهيم القيمية، خاصة الاستهلاكية"، وأنه "فرصة لإعادة تقييم الأولويات، كعلاقتنا مع الأسرة وأولويات العمل"، ويقول "إنها مناسبة لإعادة اكتشاف ذواتنا، بعيدا عن قيم الاستهلاك، وهذه مناسبة لتكسير وهم أنه لا يمكننا العيش إلا بما تعودنا عليه. يجب أن ننظر إلى القيد الصحي على أنه فرصة إلى العودة إلى الجو المطلوب داخل الأسر".
ويقر الطبيب النفساني بأن أصعب ما في القيد الصحي هو "التزامنا بحدود ضيقة، اعتدنا تجاوزها بسهولة وبديهية، لكنه، في الوقت ذاته، يمكن أن يكون وسيلة لإعادة النظر في مفهوم الأسرة كقيمة"، ويوضح "في اعتقادي، فإن أبرز مشكل في المغرب ليس هو التعليم أو الصحة، بل التربية، لقد اختل مفهوم الأسرة في المغرب، واختل معه دورها في التربية".
تعامل خاص للأطفال والمسنين
يلفت الطبيب النفساني إلى مسألة مهمة تتعلق بكيفية التعامل مع الأطفال خلال فترة الحجر الصحي، خاصة أنهم شريحة عمرية كثيرة الحركة وصعبة الضبط، وينبه إلى التعامل بعناية مع أخبار الفيروس والجائحة أمام الأطفال، وتجنب بث الرعب في نفوسهم، مع ضرورة شرح الوضع لهم ببساطة.
ويقول قشوشي "علينا أن نشرح لهم الوضع بطمأنينة، وألا نهول الأمر، بشرح بمعلومات بسيطة وصحيحة ومطمئنة، وأن نحذر من نقل قلقنا إليهم. يجب أيضا أن نفهمهم أن عليهم مواصلة التعليم، وأن نرسم لهم مستقبلا مطمئنا".
وحسب الطبيب، فإنه يجب سن برنامج يومي خاص بالأطفال، يبدأ بالاستيقاظ المبكر، مع ضرورة الحفاظ على مساحات لعب لهم لأنهم يملون بسرعة.
أما عن المسنين، فيحذر قشوشي من تكرار "أسطوانة" أن "الفيروس يستهدفهم بالدرجة الأولى، وأنه يجب تفادي تحوليهم إلى أرقام، كما لا يجب إسقاط تمثلات مجتمعية غربية على الوضع المغربي. فلكل مجتمع نظرته الخاصة بالمسنين"، ويقول "لحسن الحظ، تعافت مريضة مغربية تبلغ من العمر 80 عاما. إنه إنصاف نفسي لهذه الفئة، وبارقة أمل. لا أتصور كيف ستكون الوضعية النفسية لمسن مغربي، يسمع طوال اليوم خطابا بأن الفيروس يقتل كبار السن بسهولة".
ماذا عن الطبيب والمريض؟
يكشف قشوشي أنه إذا كانت الاضطرابات النفسية متربصة بالجميع في زمن الجائحة والقيد الصحي، فإنها أشد فتكا بالمرضى النفسانيين، خاصة الذين يعانون من أمراض كـ"قلق عام" و"الخوف من المرض" و"الوسواس القهري"، لأن أوضاعهم النفسية تتدهور في مثل هذه الظروف.
فئة أخرى تعتبر الشريحة التي تقف في وجه المدفع، وتقاتل بشراسة ضد انتشار فيروس كورونا المستجد، وهم الأطر الطبية والممرضون والتقنيون وعمال النظافة والحراس، ويقول قشوشي إن الدراسات النفسية المنجزة مؤخرا في الصين على مستخدمي القطاع الصحي، أظهرت أنهم أصيبوا بأمراض نفسية، أبرزها الاكتئاب، بغض النظر عن تعرض البعض منهم للعدوى بـ"كورونا".
ويوضح "هذه الفئة التي تواجه الوباء في الصفوف الأمامية، معرضة لمرض الاكتئاب، وليس لأعراضه فقط، خاصة وبدرجة كبيرة العنصر النسوي، الذي يشتغل بكثرة في القطاع الصحي، وبالتالي، فهم أكثر عرضة من غيرهم للاضطرابات النفسية والقلق والشك ولاضطرابات النوم، وبالتالي يجب الاهتمام بهم وتوفير خلايا استماع لهم، ويجب الاعتراف بجهودهم والتعبير عن الامتنان لهم. فعندما يقدر المجتمع عمل فئة منه يشكل ذلك دعما نفسيا كبيرا لها، لذلك علينا أن ندعهم نفسيا وماديا".
ويفيد الطبيب قشوشي أن مجموعة من التدابير جرى اتخاذها من قبل مختصين وأطباء نفسانيين مغاربة، سيما في ظرفية تتسم بوعي جماعي من طرف أفراد المنظومة الصحية، سواء صيادلة أو أطباء في القطاعين العام والخاص أو ممرضين، ويضيف "لذا فقد رأت مجموعة من المبادرات النور وتتجه في إطار الدعم النفسين؛ إذ بادر مجموعة من طلبة كليات علوم التربية إلى تخصيص أرقام هاتفية لتقديم الدعم لنفسي للأطر الطبية، كما قررت الهيئة الوطنية للأطباء مع أطباء نفسانيين تابعين للجمعية المغربية للأطباء لنفسيين، مواكبة المرضى النفسيين في هذه المرحلة...