ذكرى العلاقات المغربية البلجيكية.. لقاء يقارب التاريخ والهجرات في مؤلفات جماعية لمغاربة بلجيكا

تيل كيل عربي

في إطار البرنامج الثقافي لمجلس الجالية المغربية بالخارج، ضمن الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، احتضن رواق المجلس لقاء مميزا تحت شعار: " تخليد ذكرى العلاقات المغربية البلجيكية.. التاريخ والهجرات .." وذلك بمشاركة عدد من الكتاب المزدوجي الجنسية، استحضروا فيه المراحل التي مرت بها الهجرة بهذا البلد الأوروبي التي أشر على بدايتها التوقيع على اتفاق مغربي - بلجيكي حول اليد العاملة في 17 أبريل 1964.

وقد ساهم في هذا اللقاء، كل من ذ. حسن بوستة الباحث في علم الاجتماع بجامعة لييج والكاتبة فتيحة السعيدي البرلمانية السابقة وذ.أحمد مدهون الأستاذ الباحث بالجامعة الحرة ببروكسل. كما شارك في هذه الجلسة التي أدارها الصحفي أمين بوسحابة، الفاعل الثقافي ذ.محمد إقوبان، مؤسس "موسم" للثقافة والفنون، والناشرة البلجيكية المقيمة بالمغرب، ميشال ديماوت.

"لي عشقين" المغرب وبلجيكا

"لي عشقين" كتاب جماعي نسقته وشاركت فيه فتيحة السعيدي، التي قالت إن اختيار عنوان هذا المؤلف الواقع في 171 صفحة من الحجم الصغير، كان عن سبق إصرار وتدبر واستلهم عنوان أغنية الفنانة المشهورة جوزفين بيكر التي كانت معجبة بها وبمسارها النضالي الحافل في ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان، ولاسيما حقوق النساء وحقوق السود، ونضالها ضد الفاشية والنازية. وقالت إن هذه الفنانة الشهيرة، تمثل نموذجا يحتدى به لمزدوجي الجنسية لكونها أمريكية وهاجرت إلى فرنسا واستقرت بها دون أن تنقطع صلاتها مع وطنها الأصلي. وزاد إعجابها بجوزفين بيكر عندما علمت أنها سبق لها أن زارت المغرب واستقرت به لمدة سنة كاملة.

وفي سياق توضيح عشقها المزدوج لبلديها (المغرب وبلجيكا)، أشارت السعيدي إلى أن الأمر ليس دائما سهلا وأن الأحاسيس والعواطف والشعور بالانتماء تتحول أحيانا إلى اختبار، لكن الأهم هو أنه ليس هناك تراتبية أو تفاضل بين محبة الوطن الأم ووطن الاستقرار والعيش، غير أنها أوضحت أن هذا التوازن ليس قاعدة عامة تسري على كل أجيال الهجرة المغربية إلى بلجيكا فهناك تمايز جيلي، كما أن هناك غنى وتنوعا في هذا الانتماء المزدوج.

وذكرت بأن سنة 2024 تخلد للذكرى 60 لبداية التدفقات الرسمية للهجرة المغربية إلى الأراضي البلجيكية، ويرمز لها بالتوقيع مع المغرب على الاتفاقيات المتعلقة باليد العاملة في 17 أبريل 1964. لكن السعيدي لاحظت أنه منذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة تحت الجسر، والآن فبلجيكا ترى بأم عينيها أبناء الجيل الرابع لهذه الهجرة المغربية. وقالت بالتأكيد إنهم أطفال بلجيكا، لكن عددا منهم مازالت لهم دوما ثقافة مزدوجة يحافظون على استمراريتها.

بلجيكا بلادي

أما الأستاذ أحمد مدهون، الذي ساهم ونسق كتاب "بلجيكا بلادي" الواقع في 288 صفحة من الحجم المتوسط، فاعتبر أن الاحتفاء بالذكرى 60 للهجرة المغربية نحو بلجيكا، يعد واجبا لحفظ ذاكرة الأجيال المتعاقبة وكذلك لمقاومة النسيان والإهمال، مؤكدا على أن الجيل الحالي مدين للرعيل الأول، ولاسيما النساء اللائي ضحين بالغالي والنفيس من أجل خوض مغامرة الهجرة والاستقرار ببلجيكا في ظروف كانت جد صعبة ومحفوفة بمخاطر شتى.

وأشار المتدخل إلى أن الكتابة حول الهجرة عبر سرديات من عاشها، هي في حقيقة الأمر نوع من رد الاعتبار وإعادة اكتشاف أهمية الجذور والأصول و الأنساب، ولاسيما في ظل ما يلاحظ على المستوى الاجتماعي حاليا من هيمنة النزعات الفردانية، كأسلوب عيش، لكن يظل الأهم في المرحلة التي نمر منها، هو الحرص على عدم الانزلاق نحو "هوية مغلقة"، والانتصار لهوية مستدامة التي هي الانتماء إلى الإنسانية.

ولاحظ أحمد مدهون، أن المرأة ظلت مهمشة ومغيبة في الكتابات حول الهجرة على الرغم من دورها الطلائعي والرائد في الهجرات، مشيرا في هذا الصدد إلى أن المؤلف الجماعي "بلجيكا بلادي"، يهدف إلى تسليط الضوء على بعض جوانب الهجرة المغربية إلى بلجيكا، اعتمادا على كتابة تستند على أسلوب مبسط وسهل في التلقي من لدن جمور واسع من القراء.

بين ضفتين

من جانبه، أبرز ذ. حسن بوستة أن الكتاب الجماعي الموسوم بـ "بين ضفتين" الذي قام بتنسيقه وساهم في كتابته، يقع في 265 صفحة من الحجم الكبير يسعى إلى المساهمة في إعادة الحياة إلى ذاكرة الهجرة المغربية إلى بلجيكا بايجابياتها وسلبياتها، موضحا أن بلجيكا وإن لم تكن ضمن القوى الاستعمارية للمغرب، فإنها مع ذلك كانت لها أطماع قبل ألمانيا وفرنسا، مشيرا إلى أن بلجيكا كدولة مستقلة وإن كانت حديثة النشأة، فإنها أرسلت فيلقا عسكريا من إقليم والوني (الفرنكوفوني)، شارك في القرن 17 في معارك إلى جانب إسبانيا ضد الجيش المغربي للحيلولة دون تحرير مدينة سبتة، كما أن جالية بلجيكية قد استقرت بالمغرب خلال فترة الحماية .

كتاب "ما بين ضفتين"، هو  كذلك في حقيقة الأمر نظرة متقاطعة لتاريخ مغربي بلجيكي مشترك، من خلال استكشاف القصص المتبادلة للمغرب وبلجيكا، ويقترح رحلة عبر الزمن وسفرا في فضاء يربط بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمنطقة المتوسطية، كما سجل ذلك ادريس اليزمي، رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، في تقديمه للكتاب، والذي اعتبر فيه أن المقاربة المعتمدة تنخرط في إطار خطوة أصلية، لملء الفراغ في مجالات الشأن المتعلق بدينامية الهجرات وكذلك التعددية الثقافية، سواء بالمغرب أو ببلجيكا.

وأكد اليزمي أنه "لا رواية خطية للهجرات ولا سرد للتاريخ الوطني، فإن المؤلف، عبارة عن ملتقى طرق . يندرج في أفق طوعي مختلط ومشترك، لذاكرة جماعية وإضاءة تاريخية، لواقع متميز، وجزء ذي طابع حميمي، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي يستحضر المستجدات الأخيرة للعلاقات المغاربية ونظرائهم من بلجيكا ما بين الضفتين، يقدم توليفة صارمة ودقيقة لكن يمكن الوصول إليها ومحسوسة، معربا عن اعتقاده بأنه مما لاشك فيه أن هذه النظرة المتقاطعة، المركزة والمتعددة التخصصات، من شأنها أن تستأثر باهتمام جمهور واسع، خاصة من الأفراد الشغوفين من ذوي الانتماء المغربي والبلجيكي.

تفكير مضاعف

وكتب إدريس اليزمي أن هذا المؤلف يستدعي تفكيرا مضاعفا، يسلط الضوء، من جهة، على حركية الأفراد، وعلى الثقافات والعلوم بين البلدين من جهة أخرى، ملاحظا أن هذا التبادل بين هذين الفضاءين، قليلا ما يتم التطرق إليهما، وقال إن الكتاب على ما يبدو  يلح على أخذ مسافة لبناء الذاكرة، لأنه في بعض الأحيان قد يكون النسيان أكثر تعبيرا من الذاكرة. فعلى الرغم من النقص في المعطيات الكافية سواء ببلجيكا أو بالمغرب، فإن الطموحات الدبلوماسية والاقتصادية  للملك ليوبولد الثاني في العلاقة مع المغرب ترسم صورة لافتة للنظر. لكن اليزمي، اعتبر أن هذا الكتاب بتقديمه لقصة وإن كانت مجهولة، فإنها تظل عميقة ودالة، وهو ما يجعله يفتح سبلا لتفكير أساسي حول العلاقات القائمة ما بين المغرب وبلجيكا، ويشكل كذلك نداء للتفكير لكن بصيغة أخرى وجماعية حسب ما دبجه اليزمي في هذا الكتاب.

"ما بين ضفتين" كتاب - كما يوضح بوستة خلال اللقاء -  لا يمكن أن يصنف ضمن الكتابات التاريخية، بل هو عمل بحثي سوسيولوجي يستند على وقائع وأحداث، يحللها ويكشف عن أبعادها  ملاحظا أن هناك نوعا من "الحميمية" في العلاقات بين الشعبين المغربي والبلجيكي وأن هذه العلاقات القائمة بينها، لا يمكن أن تختزل في 60 سنة التي تؤرخ فقط لحدث التوقيع على أول اتفاقية ثنائية حول اليد العاملة التي تعود إلى سنة 1964.

هجرة معاكسة أو عشق المغرب

ميشال دي موط تحدتث، من جانبها، عن الدوافع التي جعلتها تهاجر من بلجيكا  لتستقر بالمغرب في ما يمكن أن يعتبر هجرة معاكسة، موضحة أن الرحلة الأولى إلى المغرب كانت سنة 1993 بقرار مشترك بينها وبين شريك حياتها المغربي الأصل، ومع مرور الزمن تعززت روابطها بالمغرب ولاسيما مع مدينة الدار البيضاء، وأنها حسمت قرارها بالبقاء نهائيا بالمغرب إبان جائحة كوفيد 19، عندما تلقت مكالمة هاتفية من سفارة بلجيكا بالرباط تخبرها، أن أمامها آخر فرصة للعودة إلى بلجيكا في آخر رحلة طيران، لكنها حسمت اختيارها بالبقاء والاستقرار بالمغرب. وأشارت المتدخلة إلى اكتشافها لبعض تجليات الكرم الحاتمي للمغاربة. وعن انخراطها في مشروع ثقافي والاستثمار في قطاع النشر والكتاب، أوضحت أنها اقتحمت هذا المجال بهدف المساهمة في التعريف ببعض الجوانب المشرقة بالمغرب، وإبراز التحولات التي يعرفها و المساهمة في تجاوز بعض الكليشيهات والأحكام المسبقة.

النهوض بالثقافة والفنون

ومن جانبه، توقف محمد إقوبان عند دواعي إقدامه، منذ 25 سنة على تأسيس "موسم" كمؤسسة مدنية تعنى بالنهوض بالثقافة والفنون، موضحا أن هذه الأسباب تعود، من جهة، إلى ما كان يلاحظه من تعاط "فلكلوري" مع الثقافة المغربية في بلجيكا وما يسجل من حضور باهت لها من قبل بعض الفاعلين، وتداعيات السياق السياسي المتسم ببروز اليمين المتطرف الذي جعل من كراهية الآخر (المهاجرين بصفة خاصة) محورا أساسيا في خطاباته وبرامجه السياسية، وذلك في المنطقة الشمالية ببلجيكا (المنطقة الفلامانية) .

وذكر أنه خريج المدرسة العمومية المغربية وأنه معتز بذلك لأنه بفضلها تمكن من الاطلاع على العديد من الأعمال الأدبية والفكرية التي ساهمت في تشكل وعيه وتكوين شخصيته قبل أن يقرر الهجرة والاستقرار ببلجيكا.  وقال إنه لم يجد صعوبة في التأقلم مع أجواء بلجيكا، وهو ما مكنه من عدم التعرض لـ "صدمة ثقافية ". وقال إن هناك خصوصيات للهجرة المغربية ببلجيكا، لعدة اعتبارات منها تواري "الهوية البلجيكية الموحدة" لحساب هويات جهوية، بالنظر للطابع الفدرالي للدولة والعوامل الثقافية والتاريخية.

ويشار إلى أنه، رغم أن عدد المغاربة ببلجيكا يقدر بحوالي 600 ألف نسمة، فإن أغلبيتهم يستقرون بالعاصمة بروكسل التي تمتاز بكونها قطبا حضريا ضخما ذا كثافة سكانية عالية وأن ديموغرافية المغاربة (أو البلجيكيون من أصل مغربي)، تشهد انتعاشة نتيجة ارتفاع نسبة الخصوبة، لكن تسجل في صفوفها نسب مقلقة في الرسوب والهدر المدرسي، ولكن بالمقابل هناك ارتفاع متزايد ودال في مجال انخراط ذوي الأصول المغربية في الحياة السياسية ببلجيكا على كل المستويات ومنها دوائر صنع القرار وفي مجال الأعمال.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الكتب الجماعية، صدرت بدعم من مجلس الجالية المغربية بالخارج في إطار شراكة مع دور نشر متخصصة.