رؤى متقاطعة في الجهوية المتقدمة: ماذا بعد المناظرة الوطنية؟

تيل كيل عربي

بقلم: إيمان الرازي

بعد أن أسدل الستار عن المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة في نسختها الثانية، والمنعقدة بطنجة قبل أسبوع من الآن، وتزامناً مع انشغالنا كفاعلين أساسيين في المجلس العالمي للأممية الاشتراكية، مسكونين بقضايا "العدالة الكونية" والمساواة، المنعقد كذلك بالرباط في الأسبوع الماضي، تحت شعار: "حلول تقدمية لعالم متغير"، كانت بلادنا تعمل على تعميق أوراشها الإصلاحية على المستوى الوطني، مستندة إلى رؤية ملكية استراتيجية، عبر التوقيع على المناظرة الوطنية الثانية حول الجهوية المتقدمة، بوصفها منصة لتقييم المرحلة السابقة واستشراف آفاق أكثر نضجًا ووضوحا في الرؤية ووسائل العمل لهذا المشروع الطموح.

هذا، ويلهم هذا التزامن، بفكرة تصوره أكثر من مجرد صدفة زمنية، إلى تصوره كسيرورة من التحولات التي تسعى إلى تجاوز "المنطق المركزي الجامد" في تدبير الشأن العام، حيث يتلاقى النقاش الأممي حول العدالة الاجتماعية مع المساعي الوطنية لترسيخ العدالة المجالية والاقتصادية. فما الذي يجعل الجهوية المتقدمة ورشًا حاسما في هذه المرحلة؟ وما هي الحواجز المرئية واللامرئية التي ما زالت تعترض طريقها الطويل نحو تحقيق مراميها الكبرى؟

أولاً: الرسالة الملكية كمرجعية استراتيجية:

جاءت الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في المناظرة والتي تلاها السيد عبد الوافي لفتيت الوزير الوصي على الداخلية، لتضع الإطار العام للنقاش، محددةً هدفاً استراتيجياً بالغ الأهمية ألا وهو : "البحث عن أنجع السبل لجعل الجهوية المتقدمة رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية". إذ يكشف التعبير الملكي عن وعي عميق بمركزية التنمية في تحقيق التوازن المجالي، ويؤكد على أن أي نجاح لهذا المشروع يجب أن يقاس بمدى تأثيره على حياة المواطن وقدرته على تقليص التفاوتات بين الجهات، وإلا فإن أي اشتغال خارج هذا المحدد البراغماتي يكون قد أخطأ العنوان.

غير أن هذا التوجيه الملكي، رغم وضوحه، يفتح الباب أمام مجموعة من الأسئلة التي تستوجب النقاش؛ فمن جهة، هناك ضرورة لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في توزيع الاختصاصات بين المركز والجهات، ومن جهة أخرى، تبرز الحاجة إلى أدوات عملية تضمن تفعيل "لا مركزية ناضجة"، قائمة على تفويض حقيقي للسلطات وامتلاك الجهات لآليات كافية تمكنها من ممارسة استقلاليتها. بين الرهانين، منطقة رمادية تحتاج إلى ملئها بشجاعة التفويض وموضوعية المحاسبة، وكفاءة الفاعل الجهوي ونجاعة أدائه كجواب على انتظارات مواطنة لم تعد تقوى على الجلوس في قاعة الانتظار، كما لم تعد تنطلي عليها الأجوبة التي لا تتجاوز أن تكون مسكنا مؤقتا للألم بدل أن تكون علاجا لأصل الداء.

في هذا الإطار، لا يمكن أن تظل قراءة الرسالة الملكية حبيسة الأبعاد الإدارية والتقنية فقط، مع بروز الحاجة إلى استحضار أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية أعمق في القراءة؛ فالجهوية المتقدمة يجب أن تكون مدخلاً حقيقيا لإعادة هيكلة "خرائط السلطة التنموية"، حيث يصبح المواطن فاعلاً أساسيًا في صياغة وتنفيذ السياسات العمومية بعيدًا عن هيمنة المركز وبعيدا عن حشره في زاوية المنفعل بها. يحتاج هذا المواطن إلى رجة قوية غير عنيفة تدعوه إلى استعادة سلطته على الفعل والمشاركة بدل التباكي وحماسة المواسم الانتخابية.

ثانياً: الرقمنة كأداة للعدالة الاجتماعية.

أثارت إحدى المداخلات البارزة خلال المناظرة، التي قدمها مسؤول رفيع المستوى سبق له أن تقلد مناصب متقدمة في وزارة الداخلية، وهو المدير الحالي لصندوق الايداع والتدبير السيد خاليد سفير، اهتمامًا خاصًا بموضوع التحول الرقمي للجماعات الترابية. بحيث أشار هذا المسؤول إلى ضرورة إنشاء بوابة رقمية موحدة تقدم جميع الخدمات العمومية، بدلًا من اعتماد الممارسات التقليدية التي تحول المواطن إلى "ساعي بريد" بين إدارات متناثرة تشبه "دكاكين إدارية متجاورة".

رؤية من هذا القبيل، تتجاوز مجرد تحديث إداري أو تقني. فالتحول الرقمي يجب أن يُفهم كوسيلة لتحقيق "عدالة تقنية"، من خلال توسيع دائرة الاستفادة من الخدمات العمومية لتشمل جميع المواطنين على قدم المساواة. ومع ذلك، تظل هذه العدالة ناقصة إذا لم تأخذ بعين الاعتبار كل تلك الفئات الأكثر هشاشة، مثل كبار السن، وأولئك الذين لم نضمن لهم إلى الآن ولوجا إلى أسباب المعرفة، أو إلى استدراك التعلم وذوي الاحتياجات الخاصة واللائحة طويلة، لتشمل كل الذين يجدون صعوبة في التفاعل مع الأنظمة الرقمية المعقدة.

ومن منظور أوسع، الرقمنة هنا ليست مجرد أداة للتحديث، بل مشروع مجتمعي يهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن. فالتحول الرقمي يضعنا مرة أخرى أمام فرصة إحداث تحول ثقافي شامل، يمكن أن يعزز الثقة في المؤسسات ويجعلها أكثر قربًا من المواطن، مما يُحرر الفرد من عبء البيروقراطية الثقيلة التي لطالما كانت مصدر معاناة وإحباط.

أرجو أن لا نكون جميعا، كل من موقعه، مساهمين في إهدار الفرص، إذا ما قررنا اللعب لصالح المهارات الفردية أكثر من اللعب لصالح الفريق.

ثالثاً: التحولات البنيوية وسؤال المصداقية الحقوقية

بات من العسير مقاومة قناعة تأخذ مكانها بشكل متدرج ومفادها أن "المخزن تغير، وأن الغير لم يفعل". هذا التغير الواضح في ملامح المخزن الموسوم عند البعض بالنقيض، يظهر جليًا في تبني الدولة لممارسات خطابية تتبنى مفاهيم حقوقية بشكل غير مسبوق. فأن يصدر عن مسؤول رفيع المستوى قادم من داخل "أم الوزارات" خطاب يتحدث عن "الدمج الاجتماعي" والعدالة في الرقمنة، يعني أننا أمام "لحظة تشكل جديدة" في العلاقة بين الدولة وحقوق الإنسان.

لكن هذا التحول ليس مجرد تقدم شكلي، لأنه يرفع سقف انتظارنا إلى ترجمته واقعيا. وهو التغير نفسه الذي يضع الفاعلين الحقوقيين وكل ديناميات الاعتراض والسلطة المضادة أمام تحديات جوهرية تتعلق بتجديد أدواتهم النقدية ورؤاهم في التدافع. فالدولة لم تعد كتلة صلبة وجامدة، بل أصبحت كيانًا ديناميكيًا قادرًا على التغيير . من ثم، تبرز الحاجة إلى شراكة نقدية بنّاءة بين الدولة والمجتمع المدني، تقوم على "النقد الشريك" بدلاً من المواجهة الصدامية، وعلى "البناء التشاركي" الذي يُغني السياسات العمومية بدل مطاردة أوهام التقويض.

رابعاً: الجهوية كرهان لتحرير الطاقات

ليست الجهوية المتقدمة مجرد إجراء إداري أو تقنية لتوزيع الصلاحيات بالتراضي، بل هي مشروع تحريري للطاقات بامتياز يحمل إمكانات هائلة لإعادة تشكيل العلاقة بين المركز والهامش مجاليا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وتنمويا. غير أنها لن تحقق هذه الإمكانات إذا بقيت رهينة الحسابات السياسية الضيقة أو التصورات التقنية البحتة التي تطمئن إلى مؤشرات ونسب تخلو من روح تأثيرية ممتدة إلى معيش المواطنات والمواطنين في أبسط تمظهرات اليومي وفي أكثر شؤؤونهم تعقيدا.

إن الجهوية كما تُطرح اليوم يجب أن تكون وسيلة لتوسيع دائرة الديمقراطية التشاركية، حيث يتحول المواطن إلى "حارس القرار" ومشارك فعلي في صياغته وفي الرقابة على مدى الالتزام.
لكن لتحقيق ذلك، لا بد من تعزيز آليات الشفافية والمحاسبة وتعزيز الحق في الولوج إلى المعلومة وضمان توزيع عادل للمقدرات والموارد بين الجهات، بما يتناسب مع احتياجاتها وطموحاتها التنموية، وفي أفق تضامني يسمح بتأويل سليم لفسلفة الدولة الاجتماعية

كما أن الجهوية يجب أن تكون قادرة على مواجهة القضايا الحقيقية التي تعاني منها المناطق المختلفة، مثل الإجهاد المائي، والتفاوتات المجالية، وقضايا البنية التحتية. فهذه التحديات ليست مجرد عراقيل تقنية، بل مظاهر لخلل هيكلي بنسب متفاوتة في حدتها، وتمظهرا حيا للحاجة إلى توسيع نطاق تغطية العدالة المجالية التي تُعد جوهر التنمية المستدامة.

خامسا: نحو جهوية متقدمة تحقق العدالة المجالية والاجتماعية.

إن الصورة العامة للجهوية المتقدمة، كما تُصاغ اليوم، تخبرنا عن فتح نافذة أمل يمكن من خلالها تحقيق تنمية شاملة ومستدامة. لكنها في الوقت ذاته تواجه تحديات كبرى تتطلب "إرادة سياسية جريئة"، ورؤية استراتيجية قائمة على التخطيط التقني والبعد الإنساني.

فلتكن لحظة المناظرة الوطنية الثانية، لحظة مفصلية في تاريخ التدبير الترابي والتسيير التمثيلي، جديرة بأن تُستثمر لصياغة توافق وطني جديد حول مستقبل الجهوية المتقدمة. وهو التوافق الذي يجب أن يجمع بين الدولة، بمؤسساتها وأدوارها، وبين المجتمع المدني بمكوناته المتعددة، لخلق نموذج تنموي شامل يجعل من الجهوية أداة لتحقيق العدالة المجالية والاجتماعية، وليس مجرد إطار إداري شكلي.

إن مواصلة بناء دولة المؤسسات اليوم، يحتاج للوسائط الجادة والقنوات الجدية، التي تقترح وتبادر وتجتهد، والتي لا تظل حبيسة الانتظارية وفلسفة التعليمات. في انتظار كل ذلك، سننتظر مع المنتظرين أن تصل رسالة وزير الداخلية في كلمته الختامية للمناظرة إلى كل الفاعلين المعنيين، من خلال دعوته للجميع إلى ضرورة تنزيل توصياتها، لعلها تكون حصيلة جديرة بالتقديم في النسخة الثالثة المقبلة بحول الرحمن.