رمزية المدرسة بين زمن الأمس واليوم

هادي معزوز

لا أعلم ما الذي وقع، حتى تغيرت ملامح الدخول المدرسي برمتها بين الأمس واليوم، حتى نكاد لا نعثر ولو على نقطة تقاطع صغيرة بينهما. إذا تغيرت المدرسة حتما، فهذا يعني أن الوطن برمته يتأثر بتغيرها إنْ إلى الأحسن أو الأسوأ.

انتهى زمن وحل مكانه زمن آخر، كنا نحن الجيل الذي عاش مرحلة الانتقال من التسعينيات إلى الألفية الثالثة، لكننا ومع ذلك فقد احتفظنا بصور عديدة قمنا بتخزينها في الذاكرة مما كان يحكى لنا، ونحن الذين كان لنا شرف معاصرة الجيل الذهبي الذي بات اليوم عبارة عن ذكرى نحنُّ إليها بحلوها ومرها.

كان الدخول المدرسي طقسا يختلف عن باقي أيام الدنيا، ففيه تكثر الأسئلة وتنتشر الإشاعات والآراء، منا من يسأل عن صفه الجديد كي يتعرف على الذين سيدرسون معه، وعلى الذين سيُدرِّسونه... ومنا من يتداول بأسف إشاعة انتقال هذا المدرس وحلول آخر جديد لا يعرف عنه أحد شيئا... منا من يعطي رأيه حول جدية هذا الأستاذ وطريقة تدريسه، وبين متفق ومختلف لا ينتهي النقاش بتاتا إلا كي يبدأ من جديد.

كان زمن دخولنا المدرسي، زمنا خفيفا من جميع النواحي، بدءا من المستلزمات الدراسية وانتهاء إلى المحفظة التي لم تكن لتُملأ مثل اليوم كي تعبر عن الجدية والتحصيل العلمي... لازلت أتذكر أن أغلبنا كان يتوارث الكتب المدرسية والوزرة والمحفظة عمن يكبره سنا، سواء كان فردا من أسرته أو عائلته أو ابنا لحيه. لم يكن عيبا مثلا أن تتناول دفاتر الموسم الماضي ثم تنزع السلك اللولبي عنها، وتجمع الأوراق البيضاء النظيفة فتحصل حينئذ على دفتر جديد وإن كان شكل أسطر أوراقه مزركشا، فالعبرة في التحصيل الدراسي وليس في الشكل الذي سنُحَصِّلُ به دراسيا.

زمن الدخول المدرسي في الماضي كان مناسبة للتعرف على من هو جديد وتوطيد العلاقة مع الذي لنا به معرفة مسبقة، كان الغني يجلس إلى جانب الفقير في طاولة واحدة، أما إذا أردنا أن نقوم بتراتبية ما، فعلى مستوى التفوق الدراسي بغض النظر عن الانتماء الطبقي أو الاجتماعي، لم يكن الفقر عيبا ولم يكن الغنى حظوة رغم البساطة التي كانت سائدة زمن مغرب الحسن الثاني. لكن وبالرغم من فقر المغرب بصفة عامة، فقد كان الأمل معلقا على تلك الأجيال إبان الأسود والأبيض. كنا نحلم بأن نصير ربابنة أو مهندسين أو أطباء أو علماء أو أساتذة كبار، والفاشل منا دراسيا كان يتمنى أن يصير شرطيا. أما اليوم فإذا سألت أحدهم عن حلمه، تجده يفكر كثيرا دون أن يجيبك، أو يخبرك بأن حلمه أن يصبح لاعب كرة قدم!

كانت الوطنية بالنسبة إلينا نقطة لا تقبل أي نقاش، كنا نخوض في السياسة وكلنا اعتقاد أن المغرب دولة متقدمة لها وزن كبير على المستوى العالمي، ولازلت أتذكر خلال الدراسة في السلك الإعدادي أن تلميذا معنا ـ وكان يكبرنا سنا ـ قال لنا ذات يوم أنه في إحدى القمم العربية قال الحسن الثاني لزعماء دولها: من منكم على استعداد معي بإعلان الحرب على أمريكا، لم يملك أحد شجاعة ذلك سوى جمال عبد الناصر الذي أبدى موافقة غير مشروطة. ولأن سذاجتنا كبيرة فقد صدقناه، كبر في أعيننا الحسن الثاني وجمال عبد الناصر، بدوا أمام مخيلاتنا الصغيرة أبطالا لن يجود الزمن بمثلهم، وبدورنا كنا ننقل هذا الخبر بفخر إلى من يصغرنا سنا.

ثم يظهر حس الوطنية لدينا بشكل كبير خلال المناسبات الوطنية، فترانا نغني "صوت الحسن ينادي" بكل محبة وامتنان خلال المسيرة الخضراء، أما عيد العرش الذي كان يصادف الثالث من مارس فقد كان حقا عيدا وطنيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فتجد الجميع يستعد بحماس لتقديم الأغاني والموشحات والمقاطع المسرحية والأبيات الشعرية التي تخلد ملاحم الأبطال منذ يوسف بن تاشفين إلى الحسن الثاني والد جميع المغاربة.

كان زمن المدرسة بالأمس لقاء متلاحما بين التحصيل الدراسي والبيت، فعند عودتنا عند الساعة الخامسة وبعد أن نجيب ذوينا عما حصلناه اليوم ـ وكانت هذه عادة آباءنا لجس النبض ـ نشاهد سلسلة الرسوم المتحركة، ثم نستعد لإنجاز الواجبات والتمارين المنزلية التي تنتهي عند حلول الظلام، حينها ننام بكل اطمئنان وكلنا توق إلى الذهاب نحو المدرسة صباح يوم غد.

كانت رمزية المدرسة في ذلك الزمن البعيد من رمزية المدرس، هذا الشخص الوقور الذي كان احترامنا له يفوق احترام الأم والأب، كان دوما على صواب، أما إذا كنت تعيس الحظ فإن العصا لمن يعصى واطلب من الله ألا يتناهى إلى والديك ما وقع لك فيزيداك ضربا على ضرب لأن المعلم لا يخطئ وكلامه لا يُناقش، وبالإضافة إلى صرامته فقد كانت الأناقة والنظافة عنوانه، عكس أغلب المدرسين اليوم الذين لا يَمُتّونَ للمهنة بصلة سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو التصرف، والدليل على ذلك أنهم تكالبوا ـ مع عدم التعميم طبعا ـ مع مهندسي الوزارة والزعماء النقابيين فأخرجوا لنا أجيالا معطوبة مرهفة تنهار عند أول منعطف، وتفقد الأمل في المستقبل عند أول سقوط.

لم يكن المدرس في زمن الأسود والأبيض موظفا يقتصر عمله داخل الفصل الدراسي لوحده، بل لقد كان يرافق التلميذ في مسيرته العلمية يقدم النصح لهذا والإرشاد لذاك، يقسو على الضعيف من أجل أن تنهض هممه، ويشجع المتفوق أكثر فأكثر من أجل السير بسرعة أكبر، وويل لك إذا رآك تلعب في الحي، حينها ستصبح قصة يتداولها الجميع وحدثا من أحداث الموسم الدراسي... فمن منا لا يتذكر لحد الساعة أساتذة درسوه وكان له فضلا كبيرا عليهم. أما المدرسة فإنها لم تكن تقل أهمية عن المدرس، حقا لقد كانت بيتا يتسع لجميع الفئات، وإطارا يصقل المواهب وينير الطريق المظلم لمن هو تائه، وكلنا نتذكر مجلة العندليب وركن التعارف والمجلة الحائطية وممارسة الهوايات وخزانة القسم والقصص التي كنا نتبادلها تحت إشراف المدرس. كلنا نتذكر يوم الرياضة والمسابقات المحلية والجهوية والوطنية، والرياضة المدرسية التي أنجبت كبار الأبطال، والمسابقات الثقافية التي كونت جيلا بأكمله فخرج منها الكاتب والشاعر والمفكر والرسام والمغني والعالم...

حدث كل هذا خلال ذلك الزمن القاسي حيث نسبة الفقر مرتفعة والبطالة لا تقل عنها أهمية، أما الدخل السنوي للفرد ومستوى التنمية البشرية فكلها في الحضيض، لهذا كانت منظمة الصحة العالمية وباقي المؤسسات المانحة تقدم مساعدات للمغاربة ـ أدوية ومواد غذائية وملابس وأغطية ـ الذين رغم قسوة قدرهم إلا أنهم كانوا يعتبرون التعليم بمثابة النور الذي سيشرع لهم باب الأمل الوضّاء مستقبلا، لم ينبطحوا رغم سقوطهم المتكرر، وها هم اليوم أطرا في كبريات الشركات العالمية، فمنهم من تنكر لوطنه الذي ساهم في تكوينه، ومنهم من يحمل غصة نحو مصيره اليوم، ومنهم من يعتز به وبانتماءه إليه.

حقا لا أعلم سبب كل هذا التغيير، وكيف أن لوبيات التعليم تتاجر في الكتب المدرسية والمناهج وما يرافق ذلك من تكلفة مالية أثقلت كاهل الأسر والدولة، وبالرغم من ذلك فإنهم كلما قضوا موسما ما، إلا وأعادوا أسطوانتهم القديمة من أجل تجريب وصفة أخرى بأموال ضخمة يذهب أغلبها إلى الجيوب ولنا في تقارير المجلس الأعلى للحسابات خير دليل، أما النتيجة فهي التي نراها اليوم: جيل معطوب لا يعرف ما الذي يريد..أطر وزارية ليست من التربية والتكوين من شيء.. آباء استسلموا أمام ما يقع..مسؤولون ينقصهم حس الوطنية وشغلهم الشاغل الحصول على الامتيازات فقط. أساتذة يرتكبون أخطاء لغوية ونحوية ومعرفية جسيمة.. كل هذا والكل يقف وأصبعه تشير نحو الآخر بأنه المسؤول الأول عما وقع ويقع...!