أفادت دراسة لمؤسسة "هاينريش بُل الرباط " والمعنونة بـ"مواجهة صغار الفلاحين للتغيرات المناخية بواحات إقليم زاكورة" بأن التغيرات المناخية وانخفاض منسوب المياه الجوفية أثرت بشكل مباشر على الأنشطة الزراعية التقليدية، مما دفع العديد من صغار الفلاحين إلى التخلي عن أراضيهم والهجرة نحو المدن الكبرى، مع غياب سياسات فعالة لمعالجة هذه التحديات.
وأوضحت الدراسة أن نساء الواحات تحملن أعباء إضافية بسبب الظروف المتغيرة، حيث ازدادت مشاركتهن في الأنشطة الزراعية والاقتصادية لتأمين احتياجات الأسر، في ظل محدودية استفادتهن من التعاونيات الاقتصادية والاجتماعية.
واحات زاكورة بين الجفاف وتحديات التحول
وسجلت الدراسة أن واحات إقليم زاكورة شهدت مع بداية سنوات السبعينات إلى اليوم، تحولات على مستوى التركيبة والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والبيئية. حيث بدأت تبرز أنشطة اقتصادية موازية للنشاط الزراعي المعيشي. كالأنشطة السياحية. علاوة على ظهور الاستغلاليات الزراعية الكبيرة مع مخطط المغرب الأخضر، وغزو البناء الإسمنتي للواحة. موضجة أنه خاصة بعد التقسيم الإداري للإقليم واستقرار العديد من الموظفين به، الشيء الذي ساهم في ظهور أنشطة اقتصادية من قبيل نشاط الخدمات. في المقابل سيشهد الإقليم موجات هجرة للعديد من الشباب الذين كانوا يوفرون اليد العاملة في الفلاحة المعيشية نحو الحواضر الكبرى.
وأشارت الدراسة إلى أن هذا التحول أثر على النشاط الفلاحي المعيشي الذي كان طاغيا على الواحة، ودفع العديد من صغار الفلاحين بواحات إقليم زاكورة إلى تغيير نشاطهم المعيشي والتكيف مع الأنشطة الاقتصادية الجديدة. ونتيجة لذلك تخلى العديد من صغار الفلاحين عن حقولهم التي لم تعد تذر عليهم دخلا كما في السابق.
وأبرزت الدراسة أنه قد انتشرت ممارسات بين صغار الفلاحين بواحات إقليم زاكورة، عمقت من أزمة الجفاف ونتج عنها امتصاص الفرشة المائية، كحفر الآبار بالقرب من وادي درعة، واجتثاث وقتل الأشجار المحاذية للوادي. وهو ما ساهم في انجراف التربة إلى الوادي وأدى إلى امتلائه بالأوحال وعرقلة مجرى المياه.
وذكرت الدراسة أن أصل هذا التحول يعود في الواقع إلى مرحلة السبعينات، وهي المرحلة التي تم فيها بناء سد المنصور الذهبي سنة 1972، الذي أثر بشكل واضح على الفلاحة المعيشية لصغار الفلاحين، بحيث لم يعد من الممكن زراعة مساحات كبيرة ومتنوعة من المنتوجات الفلاحية التي يمكن أن تسوق محليا، إذ أصبحت هذه الفلاحات رهينة بطلقات السد، الشيء الذي لم يكن آمنا لصغار الفلاحين من أجل القيام بنشاطهم الفلاحي المعيشي المعتاد. وبداية من سنوات الثمانينات، سيتم تقسيم العديد من الأراضي المجاورة لوادي درعة بالعديد من الدواوير.
وجاء في الدراسة أن طلقات سد المنصور الذهبي، التي كانت تشكل مصدراً رئيسياً لري الأراضي الزراعية في واحات إقليم زاكورة، قد تراجعت بشكل كبير منذ آخر فيضان شهده وادي درعة سنة 2014. وأشارت إلى أن صغار الفلاحين الذين اعتادوا الاعتماد على هذه الطلقات لتأمين معيشتهم، وجدوا أنفسهم أمام تحديات غير مسبوقة ناجمة عن التغيرات المناخية ونقص الموارد المائية، وهو ما انعكس سلباً على قدرتهم على مواصلة أنشطتهم الزراعية التقليدية.
وأفادت الدراسة أن برامج الدعم الزراعي التي أطلقتها الدولة، لا سيما ضمن إطار مخطط المغرب الأخضر (2008-2020)، دفعت العديد من الفلاحين إلى تبني زراعات حديثة معتمدة على تقنيات متطورة مثل السقي بالتنقيط وحفر الآبار. إلا أن هذه البرامج كانت في الغالب موجهة نحو الفلاحين المالكين لمساحات زراعية كبيرة، مما أسفر عن نشوء طبقة جديدة من "الأثرياء المالكين" الذين حولوا النشاط الزراعي إلى قطاع اقتصادي يهدف إلى تحقيق الأرباح، بينما عجز صغار الفلاحين عن مواكبة هذا التحول.
وذكرت الدراسة أن مصطفى الشيخ، الباحث في أنثروبولوجيا الواحات، أشار إلى أن آخر فيضان شهده وادي درعة سنة 2014 كان نقطة تحول أساسية، حيث أدى إلى تراجع كبير في الموارد المائية. وأضاف أن نضوب الآبار داخل الواحة خلق معاناة كبيرة للفلاحين الذين اضطروا إلى تعميق الآبار لمواصلة أنشطتهم الزراعية، في ظل صعوبات متزايدة في الوصول إلى مياه الري والمياه الصالحة للشرب في بعض المناطق.
من جهة ثانية، فقد الكثير من صغار الفلاحين الأمل في الأرض، وتخلوا عن عدد كبير منها نظراً لضعف مردوديتها وموت العديد من النخيل بسبب الحرائق وانتشار مرض البيوض، مما جعل من الصعب على الفلاحين الثقة في البرامج التي تدعم الأنشطة الفلاحية، كبرنامج غرس النخيل الذي يتطلب في المعدل 5 سنوات من أجل الإثمار. وأصبحت علاقة الفلاح بالأرض تحددها التجارب الناجحة التي تذر عليه دخلاً من قبيل تجربة زراعة البطيخ الأحمر، التي أضحت تشكل هوية إقليم زاكورة أكثر من التمور التي يتميز بها.
ثورة التمور في زاكورة.. تعاونيات فلاحية تحقّق التغيير
وأوضحت الدراسة أن التعاونيات الفلاحية بإقليم زاكورة، خصوصاً تلك العاملة في قطاع التمور، شهدت نمواً ملحوظاً بعد عامي 2009 و2010. وقد دفع هذا النمو العديد من الفلاحين إلى تأسيس تعاونيات جديدة أو الانضمام إليها، خوفاً من فقدان فرص الدعم التي وعدت بها المجموعات ذات النفع الاقتصادي. وساهمت هذه التعاونيات في تسويق تمور الفلاحين، وتوفير مشاتل نخل جديدة، بالإضافة إلى تقديم أدوات مساعدة في عمليات الجني.
وأشارت الدراسة إلى أن التعاونيات لعبت دوراً بارزاً في تسهيل الحصول على وثيقة السلامة الصحية من المكتب الوطني للسلامة الصحية (ONSSA)، مما ساهم في تحسين جودة التمور. كما أتاحت التعاونيات للفلاحين الاستفادة من مبرد الفيدرالية بأسعار رمزية بلغت 20 سنتيماً للكيلوغرام الواحد من التمر شهرياً، ما خفف من أعباء التخزين وساعد في تعزيز القدرة التنافسية للمنتوجات في الأسواق المحلية والدولية.
وأظهرت الدراسة أن المجموعات ذات النفع الاقتصادي المدعومة من التعاون الدولي ووزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات ساهمت في توفير أسعار مناسبة للفلاحين مقابل محصول التمور. وقد تجاوزت الأسعار التي تقدمها هذه المجموعات أحياناً تلك المعروضة في السوق المحلي أو في التسويق الذاتي بالمدن الكبرى. كما ساعدت هذه المجموعات في زيادة المحاصيل الزراعية من التمور، حيث قام الفلاحون بتعويض النخيل الغير مثمر بنخيل جديد توفره التعاونيات، إلا أن هذه التعاونيات لم تتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي من التمور حتى في أكبر الواحات على مستوى البلاد.
وبينت الدراسة أن انخراط صغار الفلاحين في المجموعات ذات النفع الاقتصادي يشكل تحدياً حقيقياً، حيث يصل أحياناً إلى عشر آلاف درهم كشرط للانخراط. وتهدف هذه المجموعات إلى تقييم رغبة الفلاحين وجديتهم في العمل التعاوني. وبالرغم من ذلك، يظل الفلاح فاقداً للسيادة على محصوله من التمور، مما يضطر العديد منهم إلى اللجوء إلى الطرق التقليدية في تسويق التمور في الحواضر الكبرى التي تظل المصدر الأساسي لدخلهم.
وأبرزت الدراسة أن عدداً من المؤسسات والمنظمات الدولية قد ساهمت في تنفيذ برامج تنموية من بينها مشروع التأقلم مع التغيرات المناخية في مناطق الواحات، الممول من صندوق التكيف، بالإضافة إلى مشروع إعادة تنشيط النظم البيئية الزراعية في الواحات (OASIL)، الذي يتم تنفيذه بشراكة مع منظمة الأغذية والزراعة والفاعلين الجهويين والمحليين. هذه المشاريع أسهمت في دعم الفلاحين المحليين ووفرت لهم أدوات ومستلزمات ضرورية لتحسين إنتاجهم الزراعي في مواجهة التحديات المناخية المتزايدة.
تحديات الشباب في إقليم زاكورة.. الهجرة والبطالة والتحولات الاجتماعية
وذكرت الدراسة أن الشباب بإقليم زاكورة يشكلون نسبة كبيرة من الساكنة المحلية، حيث تبلغ نسبتهم 57.4 بالمائة، منهم 30.2 بالمائة من الإناث و 27 بالمائة من الذكور. ورغم تحسن مستويات الولوج إلى التعليم، فإنهم يواجهون تحديات كبيرة تتمثل في ضعف فرص الشغل في المنطقة، ما يدفعهم إلى التفكير في الهجرة نحو المدن الكبرى للبحث عن فرص عمل. وهذه الهجرة تؤدي إلى إفراغ الواحات من اليد العاملة النشيطة وتفاقم الأزمة الفلاحية.
ولفتت الدراسة إلى أن الشباب في إقليم زاكورة يواجهون تحديات سوسيو-اقتصادية تؤثر على طموحاتهم التعليمية والمهنية. فبينما يضطر الكثير منهم للانتقال إلى مدن أخرى كأكادير أو مراكش بسبب غياب الجامعات في الجهة، يعجز العديد من الأسر عن توفير الظروف المناسبة لأبنائها في هذه المدن. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، يظل الشباب متمسكين بطموحاتهم ويسعون جاهدين لتحقيق أهدافهم بالرغم من التحديات.
وأفادت الدراسة أيضًا أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية في الواحات أدت إلى تراجع ارتباط الشباب بالأرض. فمع انخفاض الإنتاجية الزراعية بسبب قلة الموارد المائية، أصبح العديد من الشباب يعتقدون أن العمل الفلاحي لا يحقق تحسينًا حقيقيًا لمستوى معيشتهم، ما دفعهم إلى البحث عن فرص خارج الواحة، وخاصة في القطاع العام، كوسيلة لتحسين وضعهم الاجتماعي والمادي.