زعزاع.. حكاية معتقل يساري سابق من الزنقة 9

المصطفى أزوكاح

شهادة أخرى حول سنوات الرصاص تصدر هذه المرة عن معتقل سياسي قضى 14 عشرة عاما بسجن القنيطرة، حيث كان محكوما بالمؤبد بسبب انتمائه لمنظمة "إلى الأمام" اليسارية.

شهادة في كتاب نسجت خيوط فصوله بهدوء، يعكس شخصية صاحبه عبد الله زعزاع، الواثق والمؤمن بمشروعية الحلم الذي راوده ورفاقه، متحملا في ذلك الكثير من العذاب وكاظما الألم، الذي لا يقعده عن مواصلة الإيمان بقيم إنسانية يسعى إلى تكريسها.

لم يخض عبد الله زعزاع، في كتابه "Le Combat d'un Homme de Gauche" (معركة رجل من اليسار) في تفاصيل مشروع  منظمة "إلى الأمام"، التي كان أحد قادتها، بل إنه كان مؤتمنا، مع عدد قليل ممن لم تطلهم موجة الاعتقالات في بداية الثمانينات من القرن الماضي، على تأمين مساكن آمنة للمبحوث عنهم، حيث دأب على استعمال أوراق هوية مختلفة من أجل كراء منازل، وتهريبهم من منزل لآخر عندما يحسون باقتراب الخطر.

وفي الكتاب الجديد، يعكس ذلك القلق والضغط الرهيب اللذين كان يرافقان قادة التنظيم  خوفا من أن يعتقلوا حيث كانوا مجبرين على التخفي والتحرك سرا، في الوقت نفسه الذي كانوا منشغلين بالحفاظ على هياكل التنظيم من الانهيار.

قلق يذكيه الإحساس بالمسؤولية عند عبد الله زعزاع، الذي اعتقل بشارع الحسن بالدار البيضاء، حيث ضرب موعدا لأحد الرفاق، قبل أن يقتاد إلى معتقل درب مولاي الشريف.

بدرب مولاي الشريف، سيتعرض، كما يتحدث عن ذلك في كتابه، عن التعذيب الذي تعرض له من أجل الكشف للمحققين عن إماكن اختفاء القادة المبحوث عنهم، سعى إلى إنكار معرفته بأماكنهم، وعندما كان يشتد التعذيب، بفعل "الطيارة" و"الفلقة"، كان يدلهم على عناوين غير حقيقية، فيذكي ذلك غضبهم ويمعنون في التعذيب. لا يدعي أنه كان محصنا ضد الضعف الإنساني، فهو يقر باعترافه بأسماء رفاق له.

ألم يتقيح جلده من شدة التعذيب إلى درجة أضحت تنبعث منه رائحة منفرة، فأودع المستشفى لمدة خمسة أشهر؟ بعد ذلك تجاوز محنة "العزل" و" =الكاشو" بالسجن المركزي بالقنيطرة.

لم يتخل عن حلمه بالحرية بذلك السجن الذي زج به بالمعتقلين السياسيين المعارضين، فقد خطط رفقة معتقلين اثنين من أجل الهرب، فانهمك، بمعية رفيقه السريفي، بالكثير من الصبر والإصرار، في حفر نفق تحت زنزانتهما، عملية حفر دامت عامين كاملين. لم تنل الصعوبات التقنية والخوف الذي كان يغشاهما من أن ينكشف أمرهما، مما عقدا عليه العزم. لم تكن تلك محاولته الأولى للهرب، فقد جرب حظه عندما كان بالمستشفى بعد الفترة التي قضاها بدرب مولاي الشريف.

لم يتردد في تجاوز تحفظات رفاقه، عندما بعث برسالة إلى الحسن الثاني سربت إلى مجلة "بوليتيس" الفرنسية، ردا على ما جاء في خطاب الملك الراحل من كون الذين يوجدون رهن الاعتقال ممن لا يقولون بمغربية الصحراء، فقد أوضح في تلك الرسالة بأن من المعتقلين السياسيين من يؤمنون بمغربية الصحراء. في تلك الرسالة، حرص على التأكيد على المشروع الذي كان يتبناه ورفاقه ويرنو إلى الحرية والانعتاق.

عندما بلغه خبر إطلاق سراحه بمعية رفاق آخرين في ماي 1989، لم يبد فرحا مشروعا، مادام خلف وراءه رفاقا في السجن المركزي، وواصل النضال بعد ذلك من أجل معانقة الحرية، هو الذي عبر عن امتنانه لمن آزروه ورفاقه وناضلوا من أجل وضع حد للظلم الذي طالهم، بداية من الوالدة، التي كانت حكاياتها توطد صلاته بالعالم خارج أسوار السجن، والإخوة والأخوات وأبناء الإخوة والأخوات. إنها العائلة التي تهب لنصرة ابنها وتدافع عنه، لأنها تشعر أنه حامل لحلم يعلي من شأن الإنسانية.

في كتابه، لم يغفل الاعتراف بالوفاء الذي لمسه لدى الأصدقاء وأبناء درب الميتر بحي بوشنتوف، وخاصة الزنقة 9.

غير أن المحنة لم تنته بعد معانقة الحرية،  فلم تنم عين الأمن عنه، حيث يتحدث عن الاستجوابات التي خضع لها بوزارة الداخلية وولاية الأمن بالدار البيضاء، عندما كان يسعى إلى الحصول على جواز سفر أو رخصة سياقة سيارة أجرة، ناهيك عن الاستدعاءات بدون سبب، والمضايقات التي طالت أسرته، بسبب مواصلته لنضاله السياسي ونشاطه في المجتمع المدني.

من الزنقة 9، سيواصل بعد مغادرته للسجن، نضاله من أجل القيم التي آمن بها، وشجعه على ذلك التزام أبناء الحي، الذين أقنعوه بالترشح للانتخابات الجماعية والتشريعية في 1997، حيث تميزت الحملة بنقاش حول العلمانية وقضايا أخرى حساسة، كي يشدد على أن "الناس قد لا يفهمون أي شىء إذا لم نتكلم معهم. يجب أن نبدأ في يوم من الأيام".