تبدو ممرات دخول سبتة السليبة، أو الخروج منها، أشبه بممر السيرك الضيق الذي تساق وسطه حيواناته نحو صالة العرض، يحيط بها السياج الحديدي من كل جانب، سياج أزرق عند العبور نحو الثغر المحتل وأصفر عند الخروج منه، بثقوب صغيرة تمر عبرها سيجارة بصعوبة، وسقف حديدي منخفض جدا.
وأنت تسرع الخطى لبلوغ باب تلك الممرات، ينتابك شعور بفقدان إنسانيتك، تختنق حتى وإن سرت وحيدا دون ازدحام بشري. ازدحام لم يعد موجودا هنا، منذ قررت السلطات المغربية نهاية العام المنصرم إقفال منفذ "التهريب المعيشي" كما يوصف. لكن هل كان كذلك؟
لماذا قرار وقف التهريب؟
الصحف الإسبانية تتحدث، منذ شهور، عن "قرار مغربي سياسي لخنق المدينتين"، وتشهر ورقة وقف دخول السلع بدورها من المغرب، خاصة الخضر والأسماك، في الوقت ذاته، ينفي المسؤولون المغاربة ذلك، كما جاء على لسان نبيل لخضر، المدير العام لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، والذي صرح، لـ"تيلكيل" في وقت سابق، أن "المعبر الحدودي لمدينة سبتة، إلى جانب معبر مليلية، غير مصممين من أجل العمليات التجارية بل مخصصان للمسافرين والعابرين"، وشدد على أنه "ليس في حساب الجانب المغربي أبدا خنق المدينتين، بل الواقع أنهما هما من يخنقان اقتصادنا بسبب التهريب".
"التهريب لم يعد معيشيا، كما يحاول أن يوهمنا البعض"، يقول أحد مسؤولي وزارة الداخلية بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة، ويقر بأن "قرار المغرب صعب نعم، وهو أشبه بالولادة القيصرية لواقع جديد. مسؤوليتنا نحن والمنتخبون والمستثمرين ومختلف المتدخلين، هو تسريع وتيرة المشاريع التي ستوفر فرصاً للشغل، خاصة المنطقة الصناعية التي شهدت، في السابق، تعثرا في الإنجاز، وكذا المنطقة التجارية الحرة التي أنجزت دراسة بخصوصها".
"تيلكيل عربي" شد الرحال إلى "باب سبتة"، حيث لا تتوقف حركة المرور والسير بين الجانبية طيلة اليوم، رغم وقف الحاجة الأولى إليها، وهي إدخال بعض السلع وإخراج أخرى بكميات أكبر.
طابور طويل من السيارات، آخره يبلغ المدار، حيث تركن سيارات الأجرة من الحجم الكبير، ما رفع ساعات الانتظار إلى ست وزيادة. فتشديد السلطات المغربية لإجراءات تفتيش الخارجين قابله تشديد مضاعف من الجانب الإسباني على الراغبين في الدخول.
داخل سبتة الوضع مختلف، ومع أول إطلالة من داخل المدينة، تتحسس الركود ولا تكاد تسمع سوى أصوات خافتة، مرة بلكنة شمالية وأحيانا باللغة الإسبانية، وما يصلك من أحاديث المرابطين في الجهة أخرى، لا يتجاوز رسم خطط إخراج بعض المواد والسلع دون أن تطالها أعين الجمارك المغربية.
"تيلكيل عربي" بحث داخل سبتة عن أجوبة لأسئلة كثيرة، أولها: لماذا قرر المغرب وقف خروج السلع من الثغر؟ هل القرار سياسي؟ أم إجراء لحماية الاقتصاد المغربي؟ كما جاء على لسان نبيل لخضر، المدير العام لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة في تصريح سابق لـ"تيلكيل".
ما هي رواية سلطات وزارة الداخلية حول الأوضاع قبل قرار وقف "التهريب المعيشي"؟ وهل هو "معيشي" فعلاً أم أصبح يتجاوز ذلك؟ كيف ستواجه هذه السلطات عطالة الآلاف من النساء والشباب الذين كانوا يجنون رزقهم من سلع سبتة المختلفة؟ وما هي الحقائق المسكوت عنها في هذا الملف الحارق، خاصة الجانب المرتبط بتهريب الأثواب والثياب؟
هنا باب سبتة.. ما بعد قرار وقف التهريب وخلفياته
قبل الدخول إلى سبتة، التقى "تيلكيل عربي" بمسؤولين رفيعي المستوى من وزارة الداخلية، وطرح عليهم مجموعة من الأسئلة، من بينها، ما هي خلفيات قرار المغارب؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت لتزيله؟
الجواب، حسب ما جاء على لسانهم، هو أنه "لا وجود لقرار سياسي من أجل خنق سبتة ومليلية، والقرار خلفيته حماية الاقتصاد المغربي لا غير، ومحاصرة تنامي استغلال التهريب بقناع المعيشي".
بعد زوال يوم الأربعاء 19 فبراير 2020، توجه "تيلكيل عربي" نحو باب سبتة، بعد الحصول على تصريح خاص بالدخول إلى المدينة السليبة، ولأن جواز السفر لا يحمل تأشيرة إسبانيا، لم تكن مهمة عبور آخر السياج الأزرق نحو الجهة الأخرى سهلة. فشل في المحاولة الأولى وفشل في الثانية، ثم كانت "الثلاثة ثابتة"، كما يقول المغاربة.
مقابل سماح شرطة الحدود الإسبانية بالدخول، كان لزاماً قبول حجز جواز السفر إلى حين العودة، مع شرط أن لا تتجاوز مدة المكوث في الداخل منتصف الليل، وإلا المصير التحويل على التحقيق.
خلال ساعات الانتظار، عاين "تيلكيل عربي" كل تفاصيل المراقبة الدقيقة والمشددة من عناصر الأمن والجمارك المغاربة على كل شيء يخرج من المدينة. السيارات تفتش ركنا ركناً، ولا تمر واحدة دون أن يغوص عنصر الجمارك تحتها، ممسكا بكشاف يضيء به عتمة أسفل إطار المركبات.
من وقت إلى آخر، يكسر الصراخ صوت هدير موج البحر الأبيض المتوسط. صراخ يقابله رجال الأمن المغاربة بصرامة قصوى، وهم يرددون جملة واحدة "ممنوع !" ... نساء يتوسلن، وأخريات ما إن يصلن إلى مركز الشرطة المركزي بالممر، حتى تطلب منهن شرطية بالزي الرسمي الدخول إلى غرفة صغيرة، ليخضعن، داخلها، للتفتيش الدقيق من أخمص القدمين وحتى ما تحت غطاء الرأس إن كان موضوعا على شعرهن.
في المركز ذاته، مجموعة من الأشخاص يرجون الإسراع بتفتيش سياراتهم المحجوزة، يقبلون بالتضحية بكل ما ابتاعوه من سلع داخل سبتة، مقابل تحرير سياراتهم، ويرضخ عدد منهم لغرامات ثقيلة إن كانت حمولتهم من السلع مبالغ فيها.
يقول رئيس المركز الأمني لباب سبتة، خلال ساعات انتظار الدخول إلى الثغر، بعد تحقيق مطول للهوية، إن "التعليمات التي وصلتهم قبل أشهر، صارمة جداً، وأي عنصر يتساهل مع مرور أي نوع من السلع تطاله إجراءات تأديبية. ضاعفنا المجهود، وطلبنا موارد بشرية إضافية توصلنا بها. نحن ننفذ ما فيه مصلحة للمغرب والمغاربة".
خلال الحديث إلى رئيس المركز الأمني، فتح صندوق سيارة سوداء، مالكها يتابع المشهد دون أن يحرك ساكناً، عنصر من الجمارك وآخر من القوات المساعدة وعناصر أمن بالزي المدني يتولون التفتيش الدقيق، وأحدهم يمسك بمفاتيح السيارة. كل السلع التي كانت محملة عليها تمت مصادرتها. إجراء يمر في صمت دون احتجاج ولا ردود فعل، ما يظهر أن التطبيع مع المنع أصبح أمراً واقعاً يجب الرضوخ له.
من قرأ تفاصيل تقرير المهمة البرلمانية الاستطلاعية لباب سبتة، قد يصدم من هول تفاصيل المعاناة اليومية لـ"المهربين"، خاصة النساء. لا مراحيض ولا أماكن تقي من حر الشمس أو لسعة البرد، وخلال موسم التساقطات المطرية يكون الواقع أكثر قسوة. وحدها رطوبة الجو قد تخنقك إن لم تكن معتاداً على المكوث طويلا في مكان مشابه.
عند بوابة الخروج للعبور نحو الجانب المغربي من المعبر، أكياس زرقاء ضخمة، عددها يتزايد مع توالي ساعات اليوم، هنا مقبرة السلع المهربة، وأي حامل لحقيبة أو كيس أو عربة مجرورة يسمع كلمات معدودات بنبرة صارمة: "آشنو عندك.. جبد أشنو عندك... حل داك الشي اللي هازّ...".
وعن ما وقف عليه تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية، وهو "وجود 1000 سيارة كانت خاصة بالتهريب، بعضها في ملكية رجال الجمارك والأمن، والتي يقدر عددها بحوالي 200 سيارة، وتحظى بامتياز الدخول إلى المدينة بشكل مباشر ودون انتظار"، يعلق مسؤول رفيع المستوى بوزارة الداخلية: "عالجنا هذا الأمر، وقمنا، بمعية إدارة الجمارك، بتنقيلات في صفوف العناصر التي تعمل على مستوى المعبر. عندما اتخذ المغرب قرار وضع حد لأضرار التهريب، قمنا بإعادة إجراءات مصاحبة على المستوى الأمني والجمركي، وإذا ذهبتم إلى المعبر ودون سابق إنذار، يعني في زيارة مفاجئة، سوف تقفون على التنفيذ الصارم للتعليمات التي أعطيت، وأي إخلال بها سوف يعرض صاحبه لعقوبات تأديبية وإدارية".
داخل سبتة.. كساد يزحف ومملكة "الخزين" تسقط
بعد الولوج إلى الجانب الآخر من معبر باب سبتة، تجد نفسك على الرصيف المقابل لشاطئ البحر.
في الجانب الآخر يساراً، ممر يظهر أن أشغالاً للتهيئة انطلقت من أجل إغلاقه. توجه "تيلكيل عربي" نحو مجموعة من الشابات اللائي يجلسن فوق مكعب إسمنتي كبير، وطلب منهن بعض المعلومات عن خارطة السير وسط المدينة، وكيف يمكن الوصول إلى أهم الأماكن التي يقصدها الباحثون عن السلع.
"بلاص أيدو" (بلاص حدّو) و"سنترو" و"نافيض" و"الخزين"، هذه أهم الأسواق التي يقصدها الراغبون في اقتناء مجموعة من السلع، سواء بالجملة أو التقسيط.
النساء اللائي سألهن "تيلكيل عربي" أشرن نحو المرور على اليسار، وقلن: "تمشي من تما، كاين الخزين، شبّر داك الطريق".
فضاء شاسع، يضم فضاءات ضخمة لعرض مختلف السلع. تصل مساحة بعضها إلى 400 متر مربع، وكانت قبل قرار وقف التهريب عبر المعبر مقصداً لآلاف الباحثين عن البضائع.
"يوم أمس (الثلاثاء 18 فبراير الجاري)، اتصلت صباحاً بأحد الأصدقاء الإسبان، وسألته عن أحوال التجارة في سوق الخزين، طلب مني أن ننتقل للحديث عبر خاصية الفيديو. صدمت من هول المشهد. كان من صعب التجول دون ازدحام وسط السوق، لكن بالكاد شاهدت قلة من الأفراد ينتقلون من محل إلى آخر". كانت هذه شهادة "علي"، وهو مغربي يعمل في تجارة الأحذية، ويؤكد أن الكساد التجاري أصبح هو الواقع اليومي لمن يقطن في سبتة المحتلة.
"تيلكيل عربي" طلب من "علي"، خلال مجالسته، تجديد الاتصال بصديقه الإسباني، والذي يملك عدداً من المحالات في سوق "الخزين"، قصد الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، والطلب الذي قبله.
ومن بين ما جاء على لسان التاجر "علي"، نقلاً عن الإسباني، هو أن "النشاط التجاري بدأ، منذ شهر أكتوبر الماضي، في الانحصار، لتبلغ نسبة تراجعه أكثر من 70 في المائة مع متم شهر يناير، وترتفع النسبة إلى 80 في المائة، خلال الأيام الأولى من شهر فبراير الجاري".
مالك عدد من محلات "الخزين" الإسباني، قال إنها "كانت تكترى في وقت سابق بمبلغ يصل إلى 2000 أورو شهريا (أكثر من 20 ألف درهم)، لكن سعر الكراء انخفض ليصل إلى 800 أورو فقط (أكثر من 8 آلاف درهم)، ويتوقع أن يستمر هذا التراجع في أسعار الكراء، خاصة وأن مجموعة من ملاك المحلات قرروا هجرتها. ليس هناك نسمة مهمة تقطن بسبتة، يمكن أن نُصرف لها الكميات الكبيرة من السلع التي نعرض".
الواقع في سوق "الخزين" مشابه لما هو عليه في باقي الأسواق، ومختلف المحلات التجارية، يؤكد نبيل بنهدا، وهو بدوره مغربي تاجر للملابس مقيم في سبتة.
وذهب الشاب إلى حد القول إن "مدخول ساكنة سبتة، من الإسبان والمغاربة، يصل من الجانب المغربي بنسبة تقارب الـ100 في المائة، وقرار وقف خروج السلع من المدينة، ترك أثراً واضحاً على مختلف مناحي الحياة".
من جانبه، ينقل "إبراهيم"، سائق سيارة أجرة صغيرة بسبتة (الملاحظ أن كل سيارات الأجرة التي استقلها "تيلكيل عربي" كان سائقوها من المغاربة، سواء المقيمين في سبتة من أجل العمل أو الحاملين للجنسية الإسبانية)، خلال الحديث معه طيلة الرحلة من "بلاص حدو" إلى منطقة "سنترو"، أن نشاطهم تراجع بشكل كبير جداً، ويضيف: "قبل قرار وقف مرور السلع من هنا إلى المغرب، كان قاطنو المدينة يجدون صعوبة في العثور على سيارة أجرة، بالنظر إلى عددها القليل. اليوم نحن من نجد صعوبة في العثور على زبناء لنقلهم. كنا لا ننتظر دقيقة واحدة كي نقل زبونا إلى وجهته، واليوم كما ترى، طابور طويل أمام أماكن عدة".
سائق سيارة الأجرة المغربي، الذي صرح أنه يقيم في سبتة من أجل العمل، تحدث عن مطلب يدرسون طرحه على الحكومة المحلية للمدينة، عبر ممثليهم في القطاع، وهو الرفع من السعر المرجعي لثمن أقصر رحلة، والمحدد في 3 أورو (أكثر من 30 درهماً)، لأنهم أصبحوا متضررين من الوضع الحالي، وحان الوقت، حسب قوله، لأن تصبح أسعار الرحلات في سبتة مشابهة لما هو عليه الحال في المدن الإسبانية على الجانب الأوروبي.
خلال حديث "تيلكيل عربي" مع مجموعة من سكان المدينة وتجارها من المغاربة، صرح أغلبهم أنهم يشتغلون لفائدة أشخاص آخرين، وعدد المغاربة المقيمين هنا، سواء كانوا من جنسية إسبانية أو مغربية، المالكين للمحال التجارية، بدأ في التراجع خلال السنوات الخمس الأخيرة. تصريحات تدفع لطرح السؤال عن من أصبح مستفيداً بالدرجة الأولى من "التهريب المعيشي"، كما يوصف في الغالب.
من المتضرر؟
المسؤولون رفيعو المستوى من وزارة الداخلية يرون، في حديثهم لـ"تيلكيل عربي"، أن "المستفيدين من التهريب هم كبار التجار، سواء على الجانب المغربي أو داخل سبتة"، ويكشفون أن "واقع الحال يفيد بأن المغاربة داخل المدينة والباحثين عن مورد رزق منها، لم يعد يصلهم من عائدات هذا النشاط غير القانوني أصلا، سوى الفتات، بعد تدخل رؤوس أموال كبرى اتخذت من سبتة ومليلية منصتين لإغراق الأسواق المغربية بسلع وبضائع، حصة المواد الغذائية الاستهلاكية منها تقل يوماً بعد آخر، لصالح سلع أخرى. المغرب يستثمر فيها مبالغ مالية ضخمة، ويوفر لنقلها وتوزيعها إمكانيات طرقية ولوجستيكية وبشرية مهمة".
ويصرح المسؤول ذاته على أن هناك "توجيهات عليا صارمة، من أجل الإسراع بتنفيذ جميع المشاريع التنموية بجهة الشمال".
"حميد"، سائق سيارة أجرة كبيرة، تكلف بمهمة نقل "تيلكيل عربي" من أمام محطة القطار "طنجة المدينة" إلى باب سبتة، وبعد تفاوض عسير على سعر الرحلة، طلب تأدية المبلغ مسبقاً، وهو يردد: "ما كنتش نتشطّر معاك على 50 درهماً من قبل". جواب يظهر أن ما يقع على بعد عشرات الكيلومترات من طنجة، ينعكس على المنطقة كلها.
ومن "محاسن الصدف"، أن السائق "حميد" وحين تبادل أطراف الحديث معه، عن مطالبهم بمراجعة أسعار الرحلات، ومصير تفاوضهم مع المسؤولين في ولاية طنجة – تطوان – الحسيمة، صرح أنه كان يمتهن "التهريب"، لكنه استشعر قبل سنة، أن الأمور سائرة نحو التغيير.
يقر السائق "حميد" إن أكثر من ثلثي النساء اللاتي ينشطن في "التهريب المعيشي"، يشتغلن وفق نظام "التفريق"؛ أي أنهن مكلفات من طرف أباطرة التهريب لإخراج السلع، التي تشترى بكميات ضخمة من طرف سماسرة داخل المدينة، وتوزع عليهن، ليقمن بنقلها إلى مخازن ضخمة بمدن المضيق والفنيدق، والتي تعتبر قاعدة توزيع خلفية إلى باقي مدن المغرب.
كم كان سعر نقل البضائع المهربة ما بين المدن؟ يجيب سائق سيارة الأجرة، انطلاقاً من تجربته الشخصية بالقول: "كنت أقوم برحلتين في الأسبوع إلى مدينة الدار البيضاء، وأنقل السلع مقابل 3000 درهماً، لا تشمل مصاريف المحروقات والطريق السيار؛ يعني كنت أحصل على مبلغ 6000 درهماً في الأسبوع".
وإذا كان سوق "الخزين" وغيره على الجانب الآخر، بارت فيها التجارة، فإن أشهر سوق يستقبل بضائعها في الجانب المغربي تحول إلى ممر للأشباح، محلاته تقفل واحداً بعد آخر، خاصة تلك التي كانت تعتمد على مواردها من داخل سبتة دون غيرها.
"بلال"، أحد تجار سوق المسيرة بمدينة الفنيدق، يصرح، لـ"تيلكيل عربي"، بأن السلطات شددت من الإجراءات الزجرية تجاه المخالفين للوضع الجديد، وأصبحت تقوم بجولات تفتيشية مكثفة، ورفعت من وتيرة المراجعات الضريبية وطلبت كل الأوراق المتعلقة بشراء السلع.
ويضيف "بلال": "اليوم أي سلعة مخزنة أو معروضة بدون فواتير اقتناء معرضة للمصادرة من طرف السلطات".
تبعات الوضع الجديد طالت حتى سائقي سيارات الأجرة وعربات نقل البضائع، ففي الوقت الذي كان الحمالون ينتظرون لساعات من أجل العثور على وسيلة تقلهم إلى الفنيدق أو المضيق أو تطوان أو طنجة، أصبح السائقون هم من ينتظرون ضعف المدة الزمنية، لملء مركباتهم بالعدد المطلوب من الزبناء كي يشدوا الرحال إلى وجهتهم.
لكن وحسب الشهادات التي استقاها "تيلكيل عربي"، فإن السواد الأعظم من المغاربة المتضررين من منع التهريب، لم يكونوا في السابق المستفيدين بالدرجة الأولى منه.
في هذا السياق، وعن الإجراءات المصاحبة لقرار إنهاء زمن "التهريب المعيشي"، يقول أحد المسؤولين من وزارة الداخلية الذين التلقاهم "تيلكيل عربي"، إن "الوزارة تدرس إطلاق برامج لمصاحبة المغاربة الذي كانوا يُستغلون في التهريب المعيشي، وذلك من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، رافضاً الإفصاح عن أي تفاصيل إضافية، واكتفى بالقول: "عدد من الإجراءات سوف تعلن قريباً".
في الجانب الآخر داخل مدينة سبتة، يقول نبيل بنهدا، إن المغاربة أو من هم من أصول مغربية، تحولوا مع مرور السنوات إلى "مسخرين" في رواج السلع المهربة بمختلف أنواعها، خاصة بعد دخول الصينيين وبعض الأتراك على خط امتلاك المحلات التي تبيع السلع.
ويشرح المتحدث ذاته أن "الصينيين والأتراك، وبحكم الدعم القوي الذي يستفيدون منه من طرف المسؤولن في البلدين، وحرية تنقلهم بدون الحاجة لتأشيرة سفر، رفعوا من قيمة شراء واكتراء المحلات التجارية، كما أصبحوا يدخلون سلعاً أرخص من السلع الإسبانية، ولأن سبتة لا يتوفر فيها مصنع واحد للإنتاج، رفع هؤلاء من وتيرة استيراد البضائع. الحكومة المحلية تستفيد من عائدات دخول البضائع إلى أراضي سبتة، وهم يستفيدون من تصديرها عبر التهريب إلى المغرب دون أن يؤدوا رسوماً جمركية عليها".
التجار، الذين التقاهم "تيلكيل عربي" داخل سبتة، يقولون إن الحكومة المحلية للمدينة شرعت في التواصل مع النقابات والهيئات الممثلة للتجار والمهنيين، وهناك وعود بالحصول على دعم من مدريد من خلال برنامج مدته سنة، والهدف منه هو منع نزيف إغلاق المحلات التجارية، وضمان الاستقرار الاجتماعي إلى حين التوصل إلى حلول نهائية، يقول المتحدثون للصحيفة.
أما في ما يخص ما كان يصل من السلع الغذائية إلى سبتة، عبر المغرب، خاصة الخضر والفواكه والأسماك، يكشف التاجر "علي" في ختام حديثه لـ"تيلكيل عربي" أن المسؤولين قاموا بتوقيع عقود استيراد مع عدد من المنتجين في مدن الجنوب الإسباني، وأن الموارد من الأسماك أصبحت تصل من موانئ مدينة مالقة.
في المقابل، يشدد التاجر "نبيل" على أن عدداً كبيراً من التجار الصينيين والأتراك، حولوا مدينة سبتة وحتى مليلية، إلى قاعدة لتصدير السلع نحو المغرب، دون الحاجة إلى تحملهم مصاريف النقل والشحن وأداء الضرائب، وبدأت حتى السلع، التي تنقل من خلال المعبر، تتغير تدريجياً، ويستوردون بضائع حجمها أقل لكنها أعلى قيمة من حيث التسويق، والأثواب أحد أنواع تجارة التهريب الجديدة التي غزت أسواق سبتة.
الأثواب أخطر من الكحول
في الظاهر هناك صورة راسخة عند المغاربة على أن ما يمر عبر سبتة لا يتجاوز كونه سلع غذائية واستهلاكية بسيطة، "كاشير" و"جبن" و"سمك معلب" و"مواد تنظيف" وبعض الألبسة... السائد هو أن هذه السلع هي الأكثر حملاً فوق ظهور النساء الحمالات، لكن بين ثناياها قد تمر بضائع أخرى تهدد أحد ركائز توفير فرص الشغل في المغرب.
"تهريب الأثواب قد يكون أخطر من تهريب الكحول عبر سبتة أو مليلية". الحديث هنا لرشيد الورديغي، رئيس الجمعية المغربية لخريجي معاهد النسيج والألبسة، وأحد المستثمرين في القطاع، والذي يشدد، في تصريحه لـ"تيلكيل عربي"، على أن "كمية منتجات النسيج التي أصبحت تمر عبر معبري سبتة ومليلية تحولت إلى تهديد حقيقي".
ويشرح المتحدث ذاته أن "الخطر يهدد خاصة المستثمرين في القطاع الذين يستهدفون السوق الداخلية، ومن يشتغلون مع إحدى أكبر الماركات الإسبانية التي تمنح صناع الألبسة في المغرب حصة من 7 إلى 9 في المائة من حجم إنتاجها العالمي، وتضمن لهم دخلا ماليا سنويا مهما، دون الحديث عن المحلات التي تنشط في القطاع غير المهيكل".
ويكشف الودغيري أن رقم المعاملات السنوية لمختلف قطاعات النسيج في جهة الشمال، يبلغ 36 مليار سنتيم سنويا، ومنذ دخول ميناء طنجة المتوسط الخدمة، وتوفير منصات للنقل واللوجستيك في مناطق مختلفة، فضلاً عن المنطقة الحرة، هناك مستثمرون كثر أصبحوا يدخلون الأُثواب إلى المغرب من أجل تصنيعها وتحويلها إلى منتجات، ثم إعادة تصديرها إلى مختلف دول العالم، وجزء من هؤلاء، دائماً حسب رئيس الجمعية المغربية لخريجي معاهد النسيج والألبسة، بدأوا يبحثون عن استهداف السوق الداخلية، لكن ما يخرج من سبتة ومليلية منافس شرس، بالنظر إلى السعر الذي تصل به المنتجات إلى المحلات التجارية في المغرب.
وينقل المستثمر الودغيري أن "عدداً كبيراً من تجار الأثواب المستوردة أقفلوا محلاتهم، خاصة الذين يتاجرون في الأثواب الباهظة الثمن، والتي يؤدون مقابل استيرادها رسوماً جمركية"، ويضيف: "تصل يومياً إلى سبتة ومليلية كميات من الأثواب القادمة من مصر وإسبانيا وتركيا والبرتغال والصين، خاصة الأخيرة، عندما فهم عدد من الصينيين أن كلفة إدخال الأثواب إلى المغرب عبر سبتة ومليلية أرخص، بدأوا يتخلون تدريجياً عن مرور سلعهم من بوابة الموانئ المغربية".
هذا الواقع دفع "تيلكيل عربي" إلى إعادة الاتصال بسائق سيارة الأجرة "حميد"، الذي كان ينشط في نقل البضائع المهربة من باب سبتة إلى مدينة الدار البيضاء، وسأله عن ماذا يعرف بخصوص تهريب الأثواب، وكان جوابه واضحاً. ويقول: "نعم تهريب الأثواب صعب جداً، خاصة بعد تصاعده، خلال السنوات الثلاث الأخيرة. كل أنواع الأثواب تهرب باستثناء المصنوعة من القطن، وهناك أنواع يصل سعرها إلى 10 آلاف درهم للمتر".
كيف يتهم تهريبها؟ سؤال يطرح "تيلكيل عربي" على السائق ذاته، والذي يؤكد أن "الحمالات يتخوفن من هذه المهمة، بعد تشديد المراقبة عليها. هناك طرق خاصة لإخفائها داخل السيارات، وهناك مركبات معدة خصيصاً لهذه المهمة، حيث تدس البضاعة المهربة داخل أجزاء من السيارة، لا يمكن كشفها سوى بالتفتيش الدقيق جداً".
وعن مصدر الأثواب التي تهرب إلى داخل المغرب، يصرح سائق سيارة الأجرة "حميد" أن جلها تأتي من أربع دول وهي: تركيا وإسبانيا والهند والصين.
رئيس الجمعية المغربية لخريجي معاهد النسيج والألبسة يصرح لـ"تيلكيل عربي" أن "هناك توجهاً قوياً في المغرب للرفع من حجم الاستثمار في النسيج بجهة الشمال، واستغلال المنصات التصديرية التي أصبحت تتميز بها المنطقة، وكذا تطور شبكات النقل واللوجستيك، وهذا الوضع الجديد يفرض القطع مع أي مصدر يهدد الاستثمار في القطاع، سواء تعلق الأمر بالبضائع الموجهة للخارج أو للسوق الداخلية".
مخزون التهريب.. والعلاقات الاجتماعية
من بين الوقائع التي وقفت عليها لجنة الاستطلاع البرلمانية هي أن مدينة الفنيدق أصبحت مدينة أشباح، ولا عبرة بمواد التهريب التي لا تزال في السوق، فهناك مخزون كبير يصعب أن يستهلك بسرعة، فبعض المخازن تراكم سلعا تصل قيمتها إلى ملايين الدراهم".
المسؤولون في وزارة الداخلية، الذين جالسهم "تيلكيل عربي"، يكشفون أن "تقارير السلطات المحلية، بناء على المعطيات الميدانية، تفيد بأن السلع المهربة المخزنة في عدد من المحلات، لا تتجاوز تقديرات مدة تأمينها لموارد الأسواق أسبوعين على الأكثر (من تاريخ 18 فبراير الجاري)"، ويشددون على أن "لجن تفتيش مشتركة بين مختلف المصالح تراقب هذا الوضع عن كثب، وتتدخل لعدم طرح أي سلع منتهية الصلاحية".
وبعيداً عن صراعات الاتهامات السياسية والصراع الاقتصادي المتبادلة، هناك جانب وقف عليه "تيلكيل عربي"، مغيب عند الطرفين، وهو أواصر العلاقات الاجتماعية بين مغاربة مناطق الشمال والثغر المحتل، خاصة وأن الجانب الإسباني أصبح يمنع دخول من يقطنون في المضيق والفنيدق وتطوان دون حصولهم على تأشيرة، كما طالت ساعات الانتظار، بسبب التفتيش والإجراءات الصارمة المتبادلة؛ إذ أن عدد الزيارات بين الجانبين انخفضت حسب الشهادات التي استقاها "تيلكيل عربي" من 15 مرة في الشهر إلى خمسة فقط، وهناك توقعات بأنها قد تصبح واحدة لا غير...