صديقة من الجزائر

هادي معزوز

رسم الفنان الفرنسي دولاكروا لوحة شهيرة تحمل عنوان: "نساء الجزائر في الحرملك" عام 1834 حيث شكلت فتحا مبينا يمزج إلى حد ما بين مبادئ المدرستين الواقعية والرومانسية، وإن كان حضور هذه الأخيرة هو الطاغي، أما وقد يبدو للعيان أن الأمر يتعلق بعمل فني يمتحُ من ظاهرة الاستشراق ويتجاوزها من الدراسات التحليلية إلى التصوير، فإنه تصور يكاد يجافي المبتغى والمراد من ذلك، خاصة وأن الاضطرابات تواترت لحظتئذ بين غرب مستعمر وشرق ضعيف، ما إن تنسَلُّ قدمه اليمنى من وحل التخلف والجهل، حتى تغرق الثانية في وحل الضغوط والأزمات. ونظرا لهذا الجاموع المتواصل من الضربات التي تأتي تباعا، فقد كان على الغرب تكوين صورة جامعة مانعة تدرس ذهنية الشرق ونمط تفكيره وحدود خياله ونقط ضعفه...

لقد كان العمل ظاهريا لوحة تصف حال نساء الجزائر، ولكنه داخليا كان مهووسا بالنبش داخل المخيل الغربي للشرق وقد انبهر كامل الانبهار بحكايات ألف وليلة، حتى نكاد نقول إن شخصيات اللوحة تجسيد منقسم لشهرزاد وهي تحكي، سواء من خلال طريقة الجلوس أو تقاسيمهن التي تعطي الانطباع بتبادل أطراف الحديث والانشغال بشيء ما حتى وهن جالسات، أو فكرة الجرأة على اقتحام حريم النساء الذي نعلم أنه لم يكن متاحا إلا لمن بيده الأمر. لكن المتفق عليه إذا ما نحن نظرنا لهذا العمل بروح هذا القرن، أنه يعكس بشكل أو بآخر حوار الفرنسي مع الشرق ونظرته للمرأة ـ حسب ما يتخيل ـ والحاصل أن بيكاسو سيسير على نفس المنوال متأثرا بدولاكروا حينما سيوقِّعُ عمله الموسوم بعنوان: "نساء الجزائر" عام 1955 محافظا على نسقه التكعيبي، مسايرا نظرة الغرب للشرق التي تقول أو تصور ما يجب تقديمه، لكن مع إضافة البهارات لتلميع صورة نمطية ملؤها الشعور بالتفوق حين مقارنة الذات مع ذات الآخر.

وبدوري كان لا بد أن أتحدث عن سيدة من الجزائر، سيقول قائل: وما علاقة هذا بذاك؟ سأجيب وقد قرأت السؤال في ملامحه غداة استيعابه لما سبق: لا تفهم قولي غلوا أو رياءً أو غلواءً، فالمشترك هو النظرة لنفس الموضوع وإن كان عصرهما ليس عصري، والسياقات تختلف تمام الاختلاف إلى درجة النفور المقيت، لسبب بسيط يكمن في أن نظرة دولاكروا كانت تتغيى الاستقصاء من أجل الانقضاض، بينما ديدن سياقي لا يشذُّ عن تبادل الحديث وليس رسم الحديث والنظر إليه عن بعد. فأي إحقاق لحقٍّ داخل براثن مقارنة أراها حصيفة وإن بدا عكسها جليا وما هو بذلك.

مناسبة هذا الكلام تعود إلى علاقة صداقة وطيدة تجمعني بسيدة من الجزائر، حديثنا لا يخرج عن الأدب والفلسفة نستَدرُّ بهماما جادت به قريحة التراث أو ما يحصل اليوم داخل تضاعيفهما. وبين الفينة والأخرى نتبادل الأسرار كصديقين عزيزين، نتحدث في كل شيء لكن دون أن نقترب من الذي لا ينبغي الحديث حوله، صحيح أني لست من السياسة ولا كانت هي الأخرى على ميل إليها، لكن الرأي في السياسة ليس ممارستها أو استنشاقها، خاصة مع صاحب حرف ملاذه سياجات الأسطر أولا وأخيرا. وبما أن شيطاني يزيغ عن خطه المرسوم أحيانا، فقد كان لا بد أن أفتح ما تواطأنا على عدم الخوض فيه، ربما درءا لكل ما يمكن أن يعكر صفو صداقتنا، داخل ظروف ذابلة وإن بدت للعديد ناضرة دانية قطافها.

ثم ألفينا أنفسنا نناقش مشكلة الحدود، فإذا دعوتها لزيارة المغرب الذي يقع غرب الجزائر، فما عليها إلا أن تتوجه شرقا كي تدرك الغرب. وإذا دعتني لزيارة الجزائر، سيكون علي التوجه شطر الشرق عبر الجزائر وتجاوزها شرقا ثم العودة إليها شرقا وقد باتت غربا. لقد ذابت الخرائط وغابت معها كل أشكال الأوطان جريحةً كسيرةً في أسفل درك. وفي المقابل، فقد كنت أبحث وأنا أحدثها، عن اختلاف وحيد بيننا أتخذه وليجة لما يتناقل من الأخبار التي يغلب عليها التكالب وما يرافقه من زخرف الكلام دون محتوى.. وجدتني حاطب ليل أبحث دون جدوى فأخلط في زادي ما لا يقبل الخلط! وعليه، فقد جعلت وكدي ساعيا إلى وضع الأصبع على الجراح بدل الرقص عليها.

وجدتها غير راضية على هذا المآل الذي لا عنوان له، بينما السر توجب أن يسعى للحفاظ على الوشيجة والنَّسغِ بدل تمزيقهما.. حدثتني عن حبها الكبير للمغرب ولعلاقة الأخوة التي تجمعنا، وبُحت لها بنظرتي الخاصة التي أكنها للجزائر. قلت لها: لم أجد أي فرق بين البلدين، نتشابه في كل شيء من الفساد المستشري إلى التخلف الجاثم، ومن البحث عن سبل النجاح مرورا باللسان المشترك والتاريخ والدم، إلى محاولة الانعتاق عبر عنق الزجاجة الطويل الذي نكاد نقول إنه يجثم علينا فتغرينا الزجاجة بدنو انقضائه، لنجد أنفسنا بعدئذ نبدأ المحاولة من جديد. قالت لي: ما كان أن نصل إلى ما وصلنا إليه خاصة أن بين الشعبين علاقة جد وطيدة. قلت لها: صدقيني أني أرى المغرب في الجزائر والجزائر في المغرب، علما أن دروس التاريخ التي تلقيناها منذ الصغر، لم تكن لتخلو من صور الأمير عبد القادر، وقد تلقى كل المدد من المغرب في زمن لم يكن فيه لترسيم الحدود مآرب لدى تجار الأزمات. ثم أضفت: وحينما حصل المغرب على استقلاله، اعتبره استقلالا ناقصا لن تكتمل معالمه إلا باستقلال الجزائر. سألتها: ما الذي وقع عام 1963 حتى نصل اليوم إلى ما نحن عليه؟

لأول مرة يأخذنا الحديث في السياسة، تأسفت حقيقة الأمر لمشكلة الحدود، وبدون أن أفكر وجدتني أقول لها بعفوية: تبا للسياسة. ابتسمت بدورها ورددت بعدي قائلة: تبا للسياسة.

هذه هي اللوحة التي كونتها عن سيدة من الجزائر لا أنظر إليها بعيون دولاكروا الاستعمارية، أو من زاوية نظر بيكاسو الشبقية. هي لوحة لن تكتمل أركانها إلا حينما سيصبح المغرب في الجزائر وتصبح الجزائر في المغرب بينما الحدود سينتهي أمرها. من يدري فقد يحدث ذلك، حينها ستكتمل معالم لوحة اخترت لها عنوان: صديقة من الجزائر.