واهم من يعتقد أن الدولة ليست في حاجة إلى تحرك مجتمعها في الشارع، وإن ضد اختياراتها المرتبطة بمصالحها الاستراتيجية، مهما بلغت حدة التعبير عبر الاحتجاجات، عند حدود مستويات الفعل السياسي والنقابي والمدني.
لأجل ذلك، قوة الدولة تكمن أساسا في مجتمع حي.
مجتمع يتحرك وفق المبادئ المؤطرة لمختلف تعبيراته، وتناور هي - الدولة - بالاستناد إلى ترجمة تحركاته - أي المجتمع - إلى قوة تفاوض تبقى مسنودة بالزخم الذي ينتجه ويجب أن يستمر.
بداية شهر يناير من العام الجاري، نشرت مقالا بعنوان "صمت مخيف!".. مما جاء فيه:
(ذات يوم، سألني مسؤول في الدولة: "ما رأيك في تراجع منسوب الاحتجاج بالمغرب؟"
أجبته: "هذا الصمت مخيف... وحقيقته لا ولن تعكسها التقارير فقط. لو كنت مكان الدولة، لبحثت عمن يخرجون للاحتجاج. يجب أن ترى الغاضبين من الأوضاع أمامك. إن ظلوا مختفين، فلن تعرف بالضبط من يستثمر اليوم في هذا الغضب المكبوت، لأجل فرصة ما قد تأتي غدا أو بعد غد!").
لماذا هذه المقدمة؟
الجواب، ما شهدته شوارع العاصمة الرباط يوم أمس الأحد.
مسيرة أخرى، تنضاف إلى عدد من الأشكال الاحتجاجية التي عبر من خلالها المغاربة عن تضامنهم مع إخوانهم في فلسطين، وإعلان رفضهم للإبادة الجماعية في غزة. أيضا، مطالبتهم بمراجعة قرار المملكة استئناف علاقتها مع إسرائيل.
مشاهد يوم أمس، تعيد التأكيد على أن المملكة المغربية بقوة الواقع استثناء.
كيف؟
لأننا الدولة الوحيدة في محيطنا الإقليمي والعربي، وحتى الدولي، التي تحافظ فيه قواها بمختلف خلفياتها على نسق متصل من التعبير عن الآراء في الواقع من أجل فلسطين، وما يرافقه من تعبيرات افتراضية في المواقع.
تعبيرات المغاربة المدنية تجاه نصرة فلسطين، تتجاوز بمسافات ضوئية تلك المعبر عنها في قطر وتركيا ومصر وتونس وليبيا... أما الجارة الجزائر، فهي وفية لوضعها في خانة "العالم الآخر"، حيث نصرة القضية حبرٌ افتراضي لا غير، يلطخ بلاغات وزارة خارجيتها، ومن يفكر فقط في ترجمته في الواقع يمنع ويضرب.
هنا، لا مانع من التشديد على إبراز الفرق بين المملكة وجارتها الجمهورية. الثانية تستحضر القضية الفلسطينية فقط حين ترغب في استغلالها ضد الأولى.
وحين يفكر شعب الثانية فقط في التظاهر لنصرة المواقف المعلنة لدولته، يتمنى أن يكون من مواطني الأولى التي تُتهمُ بأنها "لا تناصر القضية".
انتهى الفاصل، لنعد إلى ما يهم المغاربة ووطنهم.
وطن لم يسبق أن انحرفت كل الأشكال الاحتجاجية لمواطنيه في اتجاه استهداف الأفراد أو الاعتداء على الممتلكات، ولا حتى التمييز حين تنزيل مختلف أشكال التظاهر والاحتجاج.
وطن يجاور فيه اليهود المسلمين والمسيحيين وغيرهم للتعبير عن المواقف، سواء ارتبطت بقضايا الداخل أو الخارج. لا فرق فيه بين من تضع الحجاب أو لا. ولا حاجة فيه لإشهار جنسية ما تحميك. احترم القانون فقط، ولن يمسّك أحد. وحتى إن تعكر مزاج السلطات من حين إلى آخر، ينال الجميع، على قدم المساواة، القدر نفسه من تبعات المنع وتفريق المظاهرات.
لذلك، لا بد من الإشارة، وباستغراب، لما نشره الحساب الرسمي لسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب من تحذير لمواطنيه الموجودين فوق تراب المملكة.
تحذير مفصول عن كل ما سبق من وقائع. بل، وجب التنبيه هنا إلى أن كل الانفلاتات التي حدثت وتحدث خلال مظاهر الاحتجاج، وقعت هناك في الغرب وليس في المغرب.
الدولة في المغرب تدبر مرحلة دقيقة جدا من تحولات دولية لا مجال للخطأ فيها، ولو في جزء من الحسابات الدقيقة التي تحدد مصير التحالفات الاستراتيجية المؤثرة بشكل مباشر في القرارات السياسية والاقتصادية والجغرافية.
هنا، أطمئن تجاه من يحدد سياسات الدولة حين نحتاج إلى ضبط البوصلة، بالعودة إلى الرسالة الملكية للقمة الإسلامية، شهر ماي من السنة الماضية.
رسالة جاء فيها أن "الأراضي الفلسطينية والأوضاع الإنسانية الخطيرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وصمة عار على جبين الإنسانية".
رسالة رفض خلالها الملك، أولا، فصل غزة عن الضفة الغربية والقدس حيث واقع الاحتلال يشمل كافة التراب الفلسطيني. كذلك، إعلان الانخراط المبكر في نقاش صفقات إعادة الإعمار قبل إنهاء العدوان.
قلت في مقال نشرته حينها: "هكذا تكلم الملك".
واليوم، أعتقد أنه هكذا يجب أن يتكلم الشعب، بشعار: كلنا مغاربة...
يجب أن يبقى الشعب المغربي كما هو، وفق التأطير الذي يحقق مقاصد الوفاء للمبادئ. مع الاستمرار في الاقتناع، أولا وأخيرا، بأن دوره اليوم هو تنزيل قناعات أنه: ضمير الوطن!
كلنا مغاربة.. ضمير داخل الوطن وخارجه. تنتقل شعلته من الوزيرة المستقيلة نورا بهولندا إلى المهندسة المتمردة ابتهال في أمريكا.