طبيب بالمجان، بلا موعد ولا فاتورة...!

هادي معزوز

كتب الإغريق في كل شيء، وابتدعوا علوما جديدة تُعنى بما قد يبدو للناس زائدا، لكن وبما أن أثينا كانت مدينة الأرستقراطيين بامتياز، فلا شك أن ما يرونه قيّما هو نفسه ما يمكن أن يراه الآخر دون إفادة تذكر، وكحل للتخلص من النظرة الواحدة للأشياء، سيحسم بروتاغوراس هذا الأمر حينما سيُقر أن الإنسان مقياس كل شيء.

هل نغامر ونقول: "كل شيء بدأ مع الإغريق، وكل شيء انتهى معهم؟" من يدري ونحن الذين لازلنا نتعلم منهمأصول التفكير والتدبير والزينة. فهذا ديمقريطس كتب فيما سيبدو للعديد مستعصيا التعمق فيه، فألّف في الرياضيات والفيزياء والمنطق والأخلاق والسياسة والنفس والأدب والجغرافيا والرحلة... شأنه في ذلك شأن أرسطو الذي يشكل لوحده علما قائما بذاته، وهو الذي ذكرنا بالشاعر زرياب الذي يحفظ الناس أشعاره فقط، دون دراية منهم بإتقانه للعديد من الأشياء الأخرى، كالقضاء والتطبيب والسفارة... بل إن مما حكي عنه، أنه من الذين تفننوا في صنع زيوت التدليك والطيب والزينة. كيف كانوا يدبّرون كل هذا في وقت وجيز؟!

مناسبة هذا الكلام هو الوضعية التي بات يعيش على إيقاعها إنسان الألفية الثالثة، ومجموع القراءات الفلسفية لأثر الرأسمالية على الفرد الذي بات عبدا من جهة وآلة مبرمجة من جهة أخرى، لم يعد يملك نفسه ولا وقته ولا ذوقه ولا اختياراته، بل حتى الجانب الحميمي فقده لصالح الموضة والماركات العالمية والعقلية الليبرالية التي تتقن فن تحويل الرغبة إلى حاجة ضرورية. وكنتيجة لهذا الأمر، فقد وجد العقل الرأسمالي الحل الأمثل لما سبق ذكره،ـ والذي لا يخلو بدوره من منطق الربح ـ ألا وهو تفريخ مراكز التدليك واليوغا وصالات الرياضة والكراسي الطبية والوسائد والمراقد المريحة وما إلى غير ذلك من لائحة تطلب الرفاهية في زمن الضغط الذي لا يتوقف. لكن ماذا لو عدنا إلى الرواقية كي نستخلص دروسها؟ وما الذي يضيرنا في الإيمان بما جاء به أحد الفلاسفة الإغريق ـ الذي لم يُعطى حقه للأسف ـ والحديث هنا عن بيرون؟

سيكتب لوران غونيل رواية قصيرة عنوانها: "الرجل الذي أراد أن يكون سعيدا" وهي في الحقيقة تُشخص مرض إنسان الأزمنة الحديثة الذي تاه وفقد بوصلة حياته، كي تقول لنا في نهاية المطاف إن البحث عن المعنى لا يوجد في المدينة ولا في التقنية ولا بالمال ولا بالسلطة، وهي رواية بقدر ما تحمل نقدا شرسا لما يسمى بالحضارة المعاصرة، بقدر ما تنهل من الإرث الإغريقي، وعليه وبدل التوجه إلى أطباء الحمية،والمتخصصين في التنمية الذاتية الذين يتكاثرون مثلما يتكاثر الفطر البري في المناطق العفنة، وبدل الإدمان على عيادات طب النفس وقضاء وقت طويل أمام الذين يدعون الحل للضغط الذي يحيط بإنسان الألفية الثالثة، سيكون من الأجدر التوجه إلى إرث الرواقية وبيرون الذين يقدمون درسا مجانيا لازلنا في حاجة إليه ـ وإن كنت أركز على أن الفلسفة ليست وصفة للتداوي على غرار وصفات بائع الأعشاب في الأسواق الأسبوعية ـ

ومن غريبالصدف أن رواد الرواقية كانوا أطباء بالمعنى الذي يحمله الطب، على غرار زينون الكتيومي وكريزيبوس وديوقليس الكارستي وجالينوس الذي يعتبر لحد الساعة مرجعا في علوم الطب، لكنهم حينما قاربوا الإنسان من الجانب الروحي، نزعوا عباءة الطبيب وعوضوها بعباءة المتصوف، فاتفقوا على أن مجموع التفاعلات البيولوجية التي تنظم جسد الإنسان ليست في نهاية المطاف سوى تثمين للارتباط القويم بين النفس والجسد، وصدى حيا لتصورهم للكون الذي يؤثر نفسيا على الفرد ويتأثر به! وقد ألَّفوا في النفس كثيرا، فانطلقوا من الفرضية التي تؤكد على ضرورة حمايتها عن طريق الوعي بالذات وبما تملك، لأن مشكلة الإنسان الحالي تتجلى في الطلب الذي يفوق الإمكانيات من أجل وهم النجاح، وهو ما يمكن أن يسقطه في دوامة الشعور بالفشل، إذ بدل ذلك، كان عليه أن يطلب الفضيلة التي لا تستقي قوتها مما هو خارجي لأنه باطل، وإنما تكمن الفضيلة في الإيمان بأن ما يحصل هو الذي يجب أن يحصل، وأن إرادة الفرد منعدمة أمام الحدث الذي يمنحه العالم، حيث تتداخل فيه جملة من العوامل بما أنه نتيجة لشروطها وليس نتيجة لإرادته. السر سيكمن في القبول وليس في ربط النفس بالأمل، لأن الذي يطلب الأمل معناه أنه فاقد للأمل في حاضره، وهو بذلك سيفقد المستقبل بما أنه وضعه رهينة للحاضر وقد مات بدوره.

أما بيرون، فقدانطلق من أمر مهم وهو الارتباط بالأشياء الذي يعتبر آفة ومرض الإنسان، فالذي يملك الأشياء يعيش كابوس الخوف من فقدانها، فإذا فقدها أصابه ألم فقدانها، والذي لا يملكها يعيش جحيم طلب امتلاكها، فإذا امتلكها شده الرعب من فقدانها ذات يوم. فالسعادة المطلوبة تتجلى أولا في عدم الحكم على الأشياء والأشخاص، وتتجسد ثانيا في تجنب الإيمان والتصديق والميل إلى مبدأ أو فكرة أو معتقد ما، لأن الركون إلى ذلك هو الذي يسبب للفرد فقدان المعنى وتعويضه بالألم. وعليه، فبيرون يجد في الشفاء من أمراض الحياة، شفاء من الارتباط بالأشياء والأشخاص والأفكار. فلا هو فاقد إياها لأنه لا يملكها، ولا راغب في امتلاكها لأنها لا تثيره، صحيح أن الأمر يتطلب دربة كبيرة وشاقة، إلا أنه يجنبنا ويلات السير في طريق السراب، ويقينا ضغط الليبرالية وقد تفننت في اللعب بالإنسان وتدجينه وتنميطه، محولة إياه إلى آلة تطلب الامتلاك دون توقف، وإلى رقم ووعاء للربح فقط.