تحل هذه الأيام ذكرى عاشوراء، وهو اليوم الذي يخلده المسلمون السنة باعتباره اليوم الذي نجى الله فيه نبيه موسى من الغرق، ويصومونه فرحا باعتبارهم أولى بالاحتفاء بموسى من اليهود، كما تقول بعض المرويات الحديثية التي تحتاج لتحقيق وتدقيق وإعادة نظر، في موضوع ديني تاريخي ليس هذا مجال البسط فيه ولا تتبعه.
لكن كل هذا الزخم الذي يرافق هذا اليوم، لم يكن ليستأثر هذا الاهتمام، ولا لأن يأخذ كل هذا البعد في الذاكرة والوجدان، ولا أن يتحول هذا اليوم لاحتفال سنوي تتخلله عادات وتقاليد موسمية، لولا أنه صادف اليوم الذي قتل فيه الحسين سبط النبي عليه السلام، في حادثة بشعة من حوادث التاريخ، ومجزرة فظيعة ارتكبها يزيد وبنو أمية في حق الثائرين عليه من آل البيت، احتجاجا على ما طبع الحكم الأموي من استبداد وطغيان.
الاحتفاء الشيعي بهذا اليوم، وما نسج حوله من قصص منها الصادق والكاذب، واستلهام وقائع ذلك اليوم لبناء عدد من المعتقدات والأفكار، وجعله مادة للتناظر والمفاصلة بين المعسكرين السني والشيعي، هو ما أكسب هذا اليوم أيضا كل هذا الاهتمام والعناية.
كل هذه العادات التي توارثناها جيلا عن جيل، ترتبط جزما بما وقع في ذلك اليوم، ومع انتحال المغاربة للمذهب السني لقرون عديدة، إلا أن كل طقوس هذه الذكرى تعود لتلك الحادثة، نشعل النار تخليدا لما أوقد من حطب خلف الخيام يوم كربلاء حتى لا يأتي العدو من الخلف، ونصب الماء على بعضنا تذكيرا بحرمان الحسين وآله من الماء حتى اشتد بهم العطش، ونوسع على الأطفال والعيال بشراء الدمى والمسدسات تعويضا عما أصاب الأطفال في ذلك اليوم، ونوزع الفواكه الجافة ونهيئ الأطباق اللذيذة سلوانا عما حصل من فاجعة وكارثة.
قد تكون بعض مظاهر الفرح في هذا اليوم متسللة من فكر ناصبي يعادي آل البيت ويظهر الشماتة فيما وقع لهم، كما ذهب لذلك بعض الباحثين، لكنني أستبعد ذلك جدا، لأن المغاربة رغم انتحالهم للمذهب السني منذ قرون عديدة، إلا أن النفس الشيعي ظل حاضرا وبقوة في الوجدان والذاكرة، خاصة وأن أول دولة حكمت المغاربة بعد مجيء الإسلام كانت دولة شيعية إدريسية.
كل هذا التاريخ والسوسيولوجيا ليس إلا محاولة للفهم والقراءة، لا يستحضر كثير من المحتفلين كل هذا التاريخ والنوستالجيا، لكن المؤدلجين من الجهتين لا زال اليوم بالنسبة لهم مناسبة لإحياء الضغائن والأحقاد، ولبث مزيد من جرعات الكراهية بين الطرفين، مع سيل من حملات التكفير والتشهير والتنقيص.
لا زلت أذكر يوم كنت طالبا بالجامعات السعودية، كيف كان الأستاذ الجامعي يخصص حصة الدرس كاملة وبمؤسسة جامعية، للحديث عن تكفير الشيعة وإخراجهم من الملة والحكم عليهم بالنار، لي يقين أنه في الجهة الأخرى من الحسينيات والجامعات كان هناك متطرف آخر يلقن طلابه تكفير السنة والحكم عليهم بسقر خالدين فيها أبدا.
عاشوراء اليوم يجب أن تتحول من مناسبة للنياحة واللطم وإحياء النعرات التاريخية إلى فرصة سنوية للمصالحة مع الذات والتاريخ، فرصة موسمية لنبذ الطائفية والكره على أساس الدين والمعتقد والمذهب.
عاشوراء بحمولتها التاريخية فرصة لإعادة النظر في هذا التاريخ، وقراءته حياديا وموضوعيا بعيدا عن العواطف والخلفيات والأحكام الجاهزة.
فرصة لنزع رداء القداسة عن أخطاء التاريخ، والتخلي عن ذلك الشعور الطهراني والمثالي نحو تجارب بشرية اعتراها من الجمال والقبح ما يعتري كل التجارب الإنسانية التي لا قداسة لها ولا تنزيه.
هي فرصة لنزع رداء الشرعية الدينية عن جرائم واغتيالات وكوارث وحماقات ارتكبت باسم الشريعة والدين.
دعونا نتفق جميعا على أن الحسين خرج ثائرا على الظلم والاستبداد وأكل أموال الناس بالباطل، وعلى أن مقتله كان جريمة بكل امتياز، وعلى أن الحسين لم يحظ في التاريخ السني بكثير من الاحتفاء، ولم ينل حقه من زخم التمجيد والاعتبار كما ناله صلاح الدين أو قطز، لأسباب سياسية وطائفية لم تعد تخفى على أحد.
لكننا بعد هذا الاتفاق، مطالبون بتدقيق الحقائق، ورفض الكذب والخرافة من كل الأطراف، وبناء أوطان قوية يسودها السلم والتعايش والحرية، بعيدا عن كل صور الطائفية والكراهية.