من عادتي بعد الخروج بفكرة مخالفة لما استقر عليه العقل الديني، خلافا لما يتوقعه البعض، متابعة ردود الأفعال سواء منها ما كان موافقة أو مخالفة، وإن كانت عنايتي بالرأي الآخر لها الأولوية عندي والتقديم، لعلي أجد فيها ما يجعلني أعيد النظر في الموضوع، أو يدفعني لمزيد من البحث والاطلاع، فما أطرحه ليس في الأخير إلا آراء وأفكار قابلة للأخذ والرد، وليست بمطلقات ولا مقولات نهائية كما يرى المخالفون في دعاواهم التي لا تقبل أي نقاش أو إعادة نظر كما هو الشأن في غالب الإيديولوجيات المنغلقة.
فعلت ذلك أيضا مع ما تحدثت عنه سابقا من كون عذاب القبر خرافة لا أصل لها في الدين، ولا ما يدعمها في النص المؤسس له، لعلي أعثر على جواب لما طرحته من أسئلة، أو أجد نصا قرآنيا صريحاغفلت عنه، أو دليلا مقبولا فاتني أثناء البحث في الموضوع، فلم لم أعثر ويا لأسفي إلا على ردود متشنجة، و كتابات موتورة مشحونة بالعنف والتجني والحقد أحيانا.
لا أستثني من ذلك إلا بعض الردود النادرة جدا، والتي كانت مثالية في أسلوب الحوار والأدب مع المخالف، ولم تخرج جميعها في الرد عن طرح أمرين لا ثالث لهما:
- قول الله تعالى: ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)، وهي آية غير صريحة إطلاقا في التدليل على عقيدة شغلت كل هذا الحيز من المخيال الإسلامي، فضلا عن أنها تتحدث عن غدو وعشي، وهي أزمنة حسية تتنافى مع مفهوم الموت المشابه للموت بنص القرآن، فالحديث عن النار كما أن الجنة لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا بنص القرآن، مع الخلط الواقع في الأذهان بين الحياة البرزخية وعذاب القبر، خلاصة الأمر ليس في هذه الآية ما يثبت الموضوع ولا ما ينفيه، فهي خارج محل النزاع والمناقشة.
- الأحاديث النبوية في الباب، وقد سبق لي الجواب عن الموضوع، بأنها أخبار آحاد، تتضمن كثيرا من الاضطراب، فلا يمكن التعويل عليها في إثبات العقائد، ولا تقرير الغيبيات التي لا سبيل للإيمان بها إلا إخبار قطعي لا يشوبه أي شك.
ما عدا ذلك من الردود، ليس في غالبه إلا ردود فعل نفسية، أبعد ما تكون عن الرد العلمي أو المحاججة الفكرية، لا أثر فيها من حجة سوى السب والشتم، والانتقال من الحديث عن الفكرة إلى صاحبها، فالشخصنة هي أسهل الطرق للحياد عن الفكرة عند العجز عن مناقشتها، حتى إن كثيرا من تلك الردود الموتورة ليثير الضحك والسخرية، كقول أحدهم أن فلانا لم يتمكن من أن يجد حظوة عند " أهل الإيمان" فذهب يبحث عنها عند الطرف المقابل، ومع ما في مثل هذا الوصف من تكفير لمن هم خلاف على رأيه، بقدر ما يذكرني بقصة عبد الله بن سلام مع قومه حين خالف دينهم، والقصة معروفة معلومة.
لا يتورع أولائك الموتورون مهما حاولت معاملتهم باحترام عن التدخل في حياتك الشخصية، والحديث عنها بكل جرأة ووقاحة أحيانا، بدل مقارعة الفكرة بالفكرة، مع أنه كان أولى به بدل أن يبذل جهدا في تحليل ما أردت وما لم أرد، وما عجزت عنه وما أفلحت فيه، أن يوفر كل ذلك للبحث عن نص قرآني صريح يتحدث عن دعوى عذاب القبر والشجاع الأقرع ذي الزبيبتين، فلو فعل ذلك لكان خيرا له ولمتابعيه.
لن أتعرض طبعا لعدد من الردود التي ليس من دافع خلفها إلا أدواء نفسية لا أحب الخوض فيها، ولا أملك لأصحابها إلا الدعاء بالشفاء والعافية، لكن الذي استوقفني، هي بعض الردود التي حاولت تقديم نفسها على أنها صوت العقل، لكنها فعلت ذلك بكثير من التعالي والنرجسية، واحتكار طرق المعرفة، مع نسبة الأقوال المخالفة لرأيه إلى ضعف البناء المعرفي، ليوهم أن هذه أقوال شاذة، حادت عن التأصيل السليم، متجاهلا ما وقع من تحولات، استدعت التعامل مع أجيال الميديا ووسائلها الحديثة، والتي لا تعترف بالأبحاث الطويلة، ولا المقالات المحكمة، بقدر ما تتعامل وتتفاعل مع خلاصات ونتائج معروضة بأسلوب قريب ومتداول، وليس في هذا غض من قيمة البحث الأكاديمي والبناء المعرفي، ولكن لكل مقام مقال، ولا تزاحم بين الأمرين.
يتحدث أحدهم في هذا السياق عن ظاهرة التحول والمراجعة محاولا ممارسة الأستاذية وإعطاء الدروس، ولست أدري من يستحق أخذ الدرس ممن، لكن العجيب هو محاولة ربط ذلك بالاستغراب والتبعية للآخر، كأنك ملزم بأن تكون على مذهبه، أو تكون مفتونا بالغرب وسياقاته، وكأن محاولة تطوير المجتمع والمرافعة عن حقوق أبنائه تهم الغربيين دون غيرهم، وتعني دول الشمال دون الجنوب.
المشكلة الحقيقية لهؤلاء هو الإغراق في الأدلجة ومعاداة الفكر الحر، فليس هدفه بلوغ الحقيقة بقدر ما يريد الوصول لنصرة إيديولوجيته، حين يتحدث مثلا عن اجتهادات عمر بن الخطاب، ويصفها بأنها صادرة عن إمام فلا يقاس عليها، وعن مراعاة عمر لما وقع من تغيرات اجتماعية وسياسية في المجتمع المسلم، ليخلص إلى أن هذه الاجتهادات لا يمكن الاتكاء عليها، تعرف حينها جناية الإيديولوجيا على العقل المسلم.
فإمامة عمر لا تسمح له بتغيير الدين ولا تحريفه كما يزعمون، ولا تبيح له مخالفة النصوص القطعية كما يدعون، فلو تحلى المستدل بقليل من الموضوعية لعلم أن عمر فعل ذلك لأنه لا يرى في تلك النصوص أحكاما نهائية غير قابلة للتطوير، ولم يتعامل معها بهذا الجمود الذي يراد لنا اليوم.
وأعجب من ذلك أن ينسب هذه الاجتهادات لتغير الزمان الذي لا يتجاوز عشر سنوات، ويريد أن يمنعها بعد خمسة عشر قرنا، مع ما جرى فيها من تحولات ضخمة، وتغييرات جذرية.
الخلاصة أنه سواء تعلق الأمر بعذاب القبر أو بغيره من قضايا تحرير العقل وتطوير المجتمع، التخلص من الإيديولوجيا والتفكير بحرية هو أولى الخطوات، والشعار الأمثل لذلك: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".