منذ مطلع القرن التاسع عشر، حيث بدأ احتكاك الدول الإسلامية بالحداثة الأوربية، وشرعت السلع الغربية في غزو الأسواق الإسلامية، ظهرت بحدة عقلية التحريم.
كان الفقهاء يحرمون كل شيء جديد فقط لأنه وافد من الغرب: حرموا التلغراف، والتلفون و الحاكي و البارود والمدفع، و الصابون والشمع والسكر والمطحنة والمطبعة والأعشاب المرقدة والشاي واللباس العصري، وربطة العنق، وحلق اللحية ، وطريقة الخياطة ، والتزين، والأوراق المالية، والبنكية، والضرائب ، وطريقة السلام العسكري، والتجارة مع الأوروبيين ، ومدارس البنات، والجرائد، وطباعة القرآن بالمطابع المعاصرة، وآلة التصوير الفوتوغرافي، وأجهزة البث الفضائي، وتحديث المناهج وفق الوسائل البيداغوجية المعاصرة.
لقد حرموا كل شيء!
مناسبة هذا الحديث الفتوى الصادرة عن هيأة الإفتاء المصرية هذا الأسبوع، والتي ذهبت إلى تحريم التعامل بالعملة الرقمية (البتكوين)، بناء لعدمِ اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصَّةِ، كما جاء في تعليل الفتوى، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلًا عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عاليةٍ على الأفراد والدول.
طبعا كل التعليلات المذكورة ليست من شأن هيأة الإفتاء ولا من اختصاصها، فهي ليست هيأة اقتصادية لها حق التدخل في الموضوع والحديث عن أضراره بمعطيات علمية صحيحة، ولا لها تخصص معلوماتي يمكنها من تحديد هذه الأضرار والمخاطر، ولا جهة حكومية تنفيذية لها قوة إصدار الأحكام وتنفيذها، فالقضية ليست من اختصاصها ولا مما لها الأهلية للحكم عليه.
لكن ما أريد الإشارة إليه هو أكبر من ذلك، هو ثقافة التحريم التي غلبت على العقل الفقهي، حتى صار كل شيء حراما وممنوعا، قلبت الآية وعكست، بعد أن كان كل شيء مباحا، والأصل استمتاع الإنسان بكل ما وهب له وما تمكن من ابتكاره، مصداقا لقول الله تعالى في كتابه الكريم: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، أصبح كل شيء حراما وممنوعا، توسعت دائرة الحرام بعد أن كانت ضيقة جدا، وتقزمت دائرة المباح بعد أن كانت فسيحة وكبيرة.
الأصل استمتاع الإنسان بكل ما وهب له وما تمكن من ابتكاره، مصداقا لقول الله تعالى في كتابه الكريم: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).
المحرمات التي نص عليها القرآن محددة وقليلة جدا، وكان تحريمها بالنص الصريح الذي لا يقبل أي تأويل، لكن الفقهاء مع إحداثهم لأصول تشريع لم تكن معروفة في العهد الأول، كالإجماع والقياس وسد الذرائع وغيرها، كان التوسع في لائحة المحرمات، وخرجنا من التحريم بالنص الصحيح والصريح، إلى المنع بنصوص ظنية وأدلة ضعيفة وحجج غير قوية، وفي ذلك في نظري حيدة عن المقصد الأصلي الذي جاء به الإسلام، وهو توسيع دائرة المباح، وتحديد عدد قليل جدا من المحرمات، تيسيرا على الخلق، حتى يترك لهم تدبير أمورهم وشؤونهم بما يرونه صالحا لهم، باختلاف الزمان والمكان.
انضافت لهذه العقلية الفقهية آثار الصدمة الحضارية التي كانت مع أول اتصال بالغرب، وقد كانت صدمة رهيبة للعقل الإسلامي الذي نام طويلا معتقدا أنه الأفضل ، ليستيقظ على هول البون الشاسع، فبدؤوا يقولون : لماذا تأخرنا وتقدموا؟، وحرموا كل وافد من الغرب من منتجات واختراعات، خوفا من أن تكون تلك المنتجات قرينة بعقائد الغربيين ومذاهبهم الفكرية.
فأصبحنا بعد ذلك كله، أمام سيل كبير ولوائح طويلة من المحرمات، أضيف لها لوائح أخرى من المكروهات، فأصبحت حياة الإنسان بين ذلك كله، مما أدى في كثير من الحالات لإصابة البعض بوسواس الوقوع في الحرام، والخوف من إتيانه، لكثرة ما قيل له أنه ممنوع وغير مسموح، بل أدى الأمر إلى نفور كثير من الناس من التدين، لارتباطه أوتوماتيكيا بتغليب جانب الحرام على الحلال، والمنع على الإباحة.
لكن ما يقع غالبا، هو أن هذا المنطق رغم مرجعيته الدينية، يتلاشى مع ضغط الواقع، وسعي الخلق لتحقيق مصالحهم، مما يدفع للبحث مرة أخرى عن فتاوى مبيحة لما كان محرما، رأينا ذلك في كثير من منتجات التكنولوجيا الحديثة، والتي سودت كثير من الأوراق في تحريمها، وضاعت براميل من الحبر في الحديث عن منعها، وما لبثنا أن رأينا نفس هؤلاء المحرمين يتسارعون لاقتنائها والاستفادة منها، والأمثلة معروفة للجميع.
بل حتى بعض الرؤى الفلسفية والفكرية، والتي جوبهت عند صدورها بردود قاسية، كانت الأيام كفيلة بتغيير زاوية النظر إليها، مع تغير الظروف، وقيام الحاجة إليها، كما رأينا ذلك في مناسبات سياسية متعددة.
خلاصة الحديث: دائرة الحرام محدودة جدا، و استدعاء الحلال والحرام في كل صغيرة وكبيرة منطق غير صحي، والأولي منه منطق النفع والضرر، أن يقال هذا نافع وهذا ضار، وهذا مرده لأهل الاختصاص والخبرة، وأن يقال هذا مسموح وهذا ممنوع، وهذا مرده لأهل القانون، أما الحرام فإنه بين، لا يحتاج لفتوى ولا للجنة تعقد اجتماعات مطولة لتقرره، (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).