بعد فيلمه "الزين للي فيك"، يعود المخرج نبيل عيوش في فيلمه الأخير "غزية"، ليعالج "طابوهات" المجتمع المغربي في علاقتها بالحريات العامة والفردية.
يصور عيوش في فيلمه الجديد، خمس قصص لشخصيات مختلفة، تبحث كل واحدة فيها عن سبيل للخروج من حالتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية التي تعيشها، وذلك بين فترة الثمانينات إلى ما بعد الربيع العربي في سنة 2015. المخرج حاول تأطير سياقات ومآلات هذه الشخصيات الرئيسية، من خلال تشخيص "متناقضين" أو "متلازمين" في المجتمع المغربي، هما الحب والغضب (وليس الكره).
رغم أن عيوش لا يسلم كل مرة من نفس الانتقادات "المحافظة" حول تضمين الفيلم مشاهد "حميمية"، إلا أن الفيلم أثار بعض الاعتراضات من طرف عشاق السينما، تمثل في أمرين، هما: تجسيد الواقعية، وعلاقة الشخصيات في ما بينها.
5 مسارات.. جنس ودين وهوية
تبتدئ القصة في سنة 1984، في المناطق النائية وسط الجبال بالمغرب، مع أستاذ (أمين الناجي) يدرس التلاميذ باللغة الأمازيغية، المتداولة والشائعة بالمنطقة، وذلك من أجل تبسيط الدروس إلى التلاميذ الذين لا يتقنون اللغة العربية. ويعيش الأستاذ قصة حب مع "إيطو" أم تلميذ يدرس في فصله؛ وهي امرأة تتحدى نظرة المجتمع القبلي إليها وتبادله نفس المشاعر، وتشكل له سندا في ظروفه.
يركز المخرج على معاناة الأستاذ في مثل هذه المناطق، لكنه يركز أكثر على شخصيته "غير المتناقضة"، بحيث أن تدريسه باللغة الأمازيغية لا يعني عداءه للغة العربية "لغة القرآن والأجداد"، فالأستاذ يصلي ويقرأ الشعر العربي القديم. الفيلم يحمل إشارات تدعو إلى احترام الخصوصية الجغرافية لكل منطقة، في المناهج التربوية والبيداغوجية لدى وزارة التربية والتعليم.
لكن ومع ذلك، ستسخط الوزارة على الأستاذ وتطرده من العمل لأنه يخالف مناهجها المعتمدة. مما سيضطره لأن يغادر إلى مدينة الدار البيضاء، "الوحش والقبر" كما أسماها، تاركا حبيبته "إيطو". هذه المرأة الأمازيغية، بلغتها ووشمها ولباسها، وبعد يأسها من انتظار عودته، ستضطر لأن لتغادر القرية للبحث عنه الذي سيستمر كل هذه السنين.
"إيطو" قدمت إلى الدار البيضاء واستقرت بها، وأصبح منزلها قبلة لممارسة طقوس نسائية تقليدية، كالرقص (التحيار) والغناء. وهنا تستقبل في منزلها زوجة (أدت الدور مريم التوزاني)، تريد التخلص من جنينها لأنها لم تعد تحب زوجها ولا ترغب في الاستمرار معه.
في الفيلم أيضا، مراهقة (أدت الدور دنيا بين بين) تعيش حياة غير مستقرة، بعدما أهملتها والدتها عاطفيا، لذا تريد أن تجرب الجنس وتبحث عن بديل للحب. عيوش منح مساحة كبيرة للممثلة للتعبير عن مشاعرها، بالتركيز على ملامحها ونظراتها التي توحي بمراهقتها وحيرتها.
وعبر هذه الشخصية، أظهر عيوش الطبقة البرجوازية "المنفتحة" في تناقضاتها؛ فالمراهقة تعتبر العلاقات قبل الزواج حراما، وتصلي في بيتها على أنغام الموسيقى الغربية في نفس الوقت، لكنها تريد أن تفقد عذريتها. في هذا الدور استطاعت الممثلة أن تقدم مستوى يرقى إلى باقي الممثلين المحترفين، بحيث نجحت في التعبير عن الحيرة والحب والغضب والفرح عبر ملامحها العفوية.
قصة أخرى في الفيلم، لشاب يعيش في حي شعبي، يحلم أن يصبح موسيقيا عالميا. ورغم أن هذا الدور جلب على عيوش وابلا من "السخط"، بحيث اعتبروه دفاعا عن المثلية الجنسية، إلا أن المخرج تجنب الوقوع في النمطية في تصوير مثل هذه المواضيع؛ ولم يصور مشهدا للممارسة الجنسية.
واقتصرت طبيعة الدور في كون هذا الشاب متأثر بالمغني العالمي "فريدي ميركوري" المعروف بميوله الجنسي المثلي. عيوش صور تأثير المغني العالمي على الشاب، في الشكل واللباس، كاختيار وحرية فردية، متجنبا الإيحاءات أو اللقطات الجنسية.
ورغم أن الأمر يقتصر على الموسيقى، إلا أن عقدة الشاب تتمثل في أزمته الأبوية وليس المجتمعية، إذ يعيش الشاب حياة طبيعية في المجتمع؛ يحلم بفتاة أوروبية ويغني مع أصدقائه في الحي دون حزازات منه، ويعمل بشكل طبيعي في معمل للنجارة، لكن عقدته الوحيدة هو نفور والده منه بشكل تام بسبب "الجنس".
إلى جانب هذه القصص، تعيش شخصية اليهودي الذي يعشق مدينة الدار البيضاء ويتجول كل ليلة في شوارعها. الرجل يدير مطعم والده الذي أصابه الكبر، وأصبح متخوفا من فقدان أصدقائه من اليهود في المغرب.
وبالرغم من أن الابن يصرح أنه لا يؤمن بالله، إلا أن ذلك لا يشكل لديه تناقضا بأن يكون يهوديا. ويحاول الفيلم تقريب صورة الإبن الذي يحمل إرث أجداده. لكن هذا الحمل سيصدمه ويحس بثقله حين تأبى فتاة ليل مغربية، المبيت معه بعدما علمت أنه يهودي.
احتجاجات "غير واقعية" !
الشخصيات يحركها الحب ويربط مصائرها بشكل عميق في دواخلها وهواجسها، وبالتالي تشترك في اكتناز الغضب الذي يسكنها. لكن ولتقريب الغضب وتجسيده أو للتنفيس عنه، اعتمد عيوش على تصوير الاحتجاجات التي تقع بالمغرب ضد الاوضاع، كسيناريو بديل أو صورة مكبرة عن الغضب الذي يسكن الشخصيات.
عيوش أراد تصوير الغضب الذي يعتري المجتمع ككل، لا من حيث دواخلهم وما يعيشونه كأفراد وسط عائلاتهم وفي علاقاتهم الأسرية أو المجتمعية، ولا من حيث ما يعيشونه نتيجة الأوضاع العامة. وهذا ما جلب على عيوش انتقادات "تتهمه" بأنه يحرف حقيقة الاحتجاجات بالمغرب لكون قراءته "لا تمت بصلة لواقع المظاهرات بالمغرب"، ولأنه صور المحتجين كمخربين.
تتوحد الشخصيات ومصائرها في الحرمان من الحب، وفي الرغبة في التحرر أو البحث عن حرية بديلة. وما يخرج الناس للاحتجاج و"التخريب" أحيانا، هو نفسه ما يقوم به الانسان عندما يكون في حالة بحث عن سبيل للتحرر. لذا تتوحد السياقات في التحرر من الأوضاع المجتمعية (العامة) ومن القيود الأسرية (الفردية).
رغم أن السيناريو والحوار جاء مبتذلا في بعض المشاهد، إلا أنه لا يعني بالضرورة وجود لقاء بين شخصيات في ما بينها في الفيلم، أو أن يكون رابط مباشر يجمعها، كما أن الفيلم ليس مطالبا بأن يعكس كل ما في الواقع.
لأول مرة.. ترجمة للعربية
اللغة العربية، وربما على غير عادة عيوش الذي ينعت بأنه منافح عن الفرنكوفونية، قام في فيلمه هذا بإدراج الترجمة المرافقة في كل حوارات الفيلم من العربية إلى الفرنسية، والعكس أيضا.
اعتاد أغلب المخرجين على عدم ترجمة الحوارت باللغة الفرنسية بين الممثلين. لكن عيوش أدرج الترجمة العربية لمن لا يفهم الفرنسية أو يفوته سماع الحوارات. هنا في هذا الفيلم أعطى عيوش لكل حقه في أن يفهم الفيلم باللغة التي يرتاح لها، أي أن الجميع يمكنه أن يفهم الفيلم، المعربون والفرنكوفونيون.