يدافع نجيب ميكو، في هذا المقال، الذي خص به "تيلكيل عربي" عن فكرة إنشاء "صندوق استثماري" للمساهمة في تمويل برنامج وطني ضخم يحول جائحة كورونا من أزمة إلى فرصة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي.
نجيب ميكو
لقد أحدثت جائحة كورونا التي حلت بالعالم وببلدنا وشعبنا، خسائر في الأرواح وزلزالا مدويا في مناخ الأعمال وشللا شبه تام في البنيات الاقتصادية لدينا.
ولعل بلدنا إن كان قد حضي في أعين العدو والصديق، بالتقدير لما أبان عنه جلالة الملك من استباق وتدبير متميزين للأزمة في شقيها الإنساني والإجتماعي من خلال توفير كل شروط ووسائل الحفاظ على حياة الناس من عدوى فتاكة، كأولوية قصوى، ومن خلال توفير كل شروط ووسائل الكرامة للأفراد والأسر في هذه الضائقة التي أتت على الأرزاق ومنابعها، فإن تحصين اقتصاد بلدنا بما يحيل إليه من حفاظ على الشغل والإنتاج والخدمات والتصدير...إلخ، التي تعد كلها قواما واجب الوجود لمجتمعنا، لا يمكن أن تتحمله خزينة الدولة لوحدها رغم كل ما اتخذته لحد الآن من تدابير قوية وهامة.
بلدنا في حاجة ملحة وعاجلة إلى مئات الملايير من الدراهم التي يجب ضخها في اقتصادنا الوطني ليس فقط لكي يصمد أمام ريح كورونا العاتية، بل لكي يعد نفسه لما بعد كورونا حتى لا يجد نفسه خارج سياق طموحات المغاربة ولا خارج الزمن الاقتصادي الدولي ولا خارج كل الفرص التي سيتيحها النظام العالمي الجديد الذي هو في طريق التشكل والذي لن يكون فيه موطئ قدم ولا امتياز السبق إلا للدول التي ستكون قد حافظت على بنياتها الاقتصادية وأعدت نفسها لهذا الموعد الجديد والحاسم مع العالم.
ولعل هذا لن يتأتى لبلدنا بواسطة الوسائل العمومية والهبات والمديونية الخارجية والداخلية لوحدهم رغم ضرورتهم الملحة. ذلك أن الوسائل المالية الذاتية لبلدنا محدودة مثلما أنه لا يمكن أن يستدين إلى ما لا نهاية بالنظر إلى عدم قدرته على تحمل مديونية تفوق طاقاته الاستردادية القصوى ولا على تحمل نسبة عجز عمومي جد مرتفعة مهما كانت ذات مضمون اقتصادي صحي، وذلك أمام كل ما يجب علينا ضخه من دعم لمقاولاتنا بمختلف أحجامها وكل ما يلزم القيام به من استثمارات لبلوغ الهدفين السالفي الذكر.
إن الأزمات مهما بلغت من تعقد وإرباك لكل الفاعلين فإن عبقريتنا الوطنية بكل تجلياتها التي أبان عنها المغاربة تحت الريادة المباشرة لجلالة الملك بشكل غير مسبوق وملفت للنظر خلال هذه الجائحة، لقادرة على ألا تكمن فقط في استباق وتدبير إكراهاتها وتداعياتها في بل أيضا في الاستفادة من الفرص الحقيقية والعديدة التي ستتيحها. إننا مطالبون هنا والآن بابتكار المستقبل عوض انتظاره.
ومن أجل ذلك فإننا مطالبون بالخروج من مربع رؤيتنا النمطية للأوضاع مثلما وللتوازنات المالية، التي تحجب عنا انكشاف مكامن "الإيجابي" في كل شيء، حتى نحرر كل طاقاتنا الابتكارية المكبوثة فنستشرف فرصا وحلولا فيما لم نكن نرى فيه إلا الأزمات والصعوبات والحواجز المثبطة.
إن مساهمة الأشخاص الذاتيين والمعنويين الوطنيين والدوليين في إطار مقاربة مبتكرة، لرفع الضرالاقتصادي الداهم بكل عواقبه المختلفة والمعقدة، كما وللإستفادة مما هو آت من فرص حقيقية في المقبل من الشهور والسنوات، ليشكل منحى يستحق التوقف عنده لسبر كل طاقاته النائمة.
ذلك أن إحداث "صندوق استثماري" بموارد مالية ضخمة بمئات مليارات الدراهم، يتم رصده للمساهمة في تمويل الاستثمارات التي ستأخذها الدولة على عاتقها دون تلك التي هي مبرمجة في قانون المالية لهذه السنة، ليعد سبيلا استراتيجيا لبلوغ غرض مساهمة قوية ومباشرة من نوع آخر في تمويل :
♤ إنشاء شركات عمومية جديدة أو تدعيم وتوسيع طاقات شركات عمومية قائمة، في قطاعات اقتصادية صاعدة وواعدة أو تقليدية تستوجب تدخل الدولة بالنظر لبعدها الإستراتيجي ولعدم استعداد الخواص الآن للاستثمار فيها أو الرفع من طاقاتها،
♤ تأميم شركات استراتيجية خصوصية لم يعد القطاع الخاص قادرا على تحمل استمراريتها،
♤ الدخول في رأسمال شركات خاصة من أجل دعم استمرارها وتطورها،
♤ إنشاء بنيات تحتية إضافية في مجالات الصحة والتعليم والتكوين والنقل العمومي،
♤ إنشاء بنيات تحتية إضافية في مجالات الطاقات المتجددة والتدفق العالي للأنترنيت والذكاء الرقمي،
♤ مواكبة مشاريع ضخمة كتمويل ثورة صناعية جمعوية في العالم القروي حول المنتوجات المجالية والصناعات الغذائية التحويلية لإحداث طفرة نوعية على مستوى الإنتاج والتسويق والتصدير والدخل المنصف والعادل القمين بإعادة تشغيل مصعد الإرتقاء الاقتصادي،
♤ تجهيز الأراضي الفلاحية الكافية في المناطق ذات الملاءمة الإنتاجية بكل الوسائل من أجل تحقيق الأمن الغذائي في قطاعات حيوية،
♤ تشجير ملايين الهكتارات عبر سائر المناطق الجبلية من أجل تثبيت التربة والمحافظة على البيئة وخلق ملايين أيام العمل الدائمة وإعداد صناعة احترافية للخشب،
♤ إنشاء طرق سيارة مائية ومحطات التحلية المائية ومعالجة المياه العادمة حتى ننهي فعليا مع الجفاف وشح مياه الشرب والسقي،
♤ إنشاء منصات مائية داخلية لتربية مختلف أنواع السمك في مختلف جهات العالم القروي،
♤ إنشاء مراكز التربية والتكوين بمقاربة تدبيرية تتطابق مع العالم القروي وبإقصاء إيجابي لصالح التلاميذ والطلبة المتفوقين أبناء عالمنا القروي لإعادة تشغيل مصعد الإرتقاء الاجتماعي.
على أن تتميز كل هذه الشركات والمشاريع والمواكبات وغيرها مما يمكن أن يرصده الذكاء الاستباقي المغربي من قطاعات ومشاريع إضافية، بحكامتها الجيدة وتعاضد مخاطرها وامتيازاتها وأرباحها داخل صندوق استثماري واحد موحد، وبضمان مردوديتها قريبة المدى، وذلك أولا لضمان نفعيتها للبلد وثانيا لضمان ربحيتها بالنسبة للمكتتبين الوطنيين والدوليين.
الأمر يتعلق إذن بفرصة لكل شخص مادي أو معنوي صغير ومتوسط وكبير لكي يدخل في مشاريع تحضى بضمانة الدولة ومدرة للربح أو لدخل سنوي قار. مثلما أنها فرصة سانحة للدولة بأن تستنهض إمكانيات تمويلية وطنية ودولية ضخمة ونائمة، ليس على شكل ديون عمومية إضافية ولا على شكل هبات فقط، ولكن على شكل استثمارات لأشخاص ذاتيين ومعنويين في إطار علاقة رابح-رابح.
على أن يكون هذا "الصندوق الاستثماري" على شكل شركة مساهمة يتم تداول سنداتها في بورصة الدار البيضاء مما سيسمح بضمان كل شروط الشفافية وتتبع النتائج للمكتتبين كما وسيمكنهم من بيع أو شراء سنداتها في أي وقت.
كما يجب أن يكون هناك شرط للإكتتاب وامتياز عند الدخول في رأسمال هذه الشركة وامتياز عند الخروج منه:
♤ الشرط هو أن حامل السندات لا يحق له بيعها خلال الخمس سنوات الأولى حتى لا يكون أي خلط بين الاستثمار والمضاربة الانتهازية الآنية،
♤ والامتياز عند الدخول هو أن قيمة الاكتتاب تعتبر بالنسبة للأشخاص المعنويين في حساباتها وحصيلتها المالية بمثابة استثمار معفى من الضريبة،
♤ أما الامتياز عند الخروج فهو أن تكون الأرباح عند بيع السندات بعد المدة الشرطية أو عند الإعلان عن النتيجة المالية المحصلة خلال كل سنة في حدود العشر سنوات الأولى، معفاة من الضريبة على أرباح القيم المنقولة.
إن الجوانب القانونية بشأن إنشاء صندوق استثماري من هذا القبيل متوفرة الآن في بلدنا والمطلوب فقط إن حظي هذا الاقتراح بالقبول، هو أن نشتغل بنفس كفاءة ووثيرة ما ينجزه بلدنا اليوم لكي نرفع تحدي إعداد وتفعيل كل الإجراءات التطبيقية لهذه القوانين دون أي مصاعب ولا تأخير. الرهان يبرر الجهد.
وإضافة إلى كل النفع المباشر وغير المباشر لهذه المبادرة فإنني لست في حاجة هنا إلى وصف ما سيكون لإدراج هذا "الصندوق الاستثماري" من تأثير على حيوية البورصة التي هي أساسا سوق مالي لتمويل الاقتصاد والشركات.
إن أزمة كورونا هي بكل تأكيد فرصتنا التي يجب أن نغتنمها بذكاء وتمعن ودون إسراف ولا إقتار غير محسوبي العواقب، للارتقاء باقتصاد بلدنا والإستجابة للتطلعات المشروعة لشعبنا وعدم تفويت موعدنا مع الأجيال الصاعدة والقادمة.
خبير في الدراسات الاستباقية والإستراتيجية