في بلاغة الجماهير.. باحثون يفككون رموز وأبعاد خطاب الجماهير

إدريس التزارني

أصدر مجموعة من الباحثين إسهاما أكاديميا يروم إغناء المكتبة المغربية والعالمية موسوم: بـ"في بلاغة الخطاب الجماهيري"، تناول ثيمات علمية مختلفة، بهدف تفكيك خطاب الجماهير، بعد تجاوزها لمرحلة التشتت وأصبحت منتظمة في شكل تكتلات بأسماء مختلفة.

عضو هيئة إشراف وتنسيق الكتاب حسين البعطاوي، الباحث في البلاغة وتحليل الخطاب قال في تصريح لـ "تيلكيل عربي"، إن الكتاب الجماعي المحكّم: ''في بلاغة الخطاب الجماهيري'' هو من تنسيق وإعداد وإشراف فريق من الباحثين الأكاديميين المنتمين إلى الجامعة المغربية والمتخصصين في البلاغة وتحليل الخطاب، وهم: خالد العنِكري (جامعة ابن طفيل، القنيطرة)، وحسين البعطاوي (جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس- سايس)، وعمر محضار (جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس- سايس). هذا الكتاب -في الأصل- جزء رابع من سلسلة البلاغة وتحليل الخطاب، التي اهتمت بمجموعة من الخطابات المؤثرة من منظور بلاغي جديد، إبرازا لبلاغة الخطاب، وقد سبقته ثلاثة كتب أخرى، وهي: «في بلاغة الخطاب التداولي»، و«في بلاغة الخطاب التخييلي»، و«في التأويليات الجديدة»، انسجاما مع أركان الاستكتاب الدولي المفتوح الذي أعلن عنه الفريق نفسه خلال عام 2023.

 

ويقول البعطاوي جوابا على لماذا بلاغة الخطاب الجماهيري، إن هذا السؤال يستفز القارئ، ويدفعه إلى البحث عن إمكانية وجود بلاغة عند الجمهور في الأصل، وذلك من منطلق أنّه لا يمكنه أن ينشئ خطابا بليغا. إن تصور بلاغة الخطاب الجماهيري ينطلق من فكرة جوهريّة مؤداها أن أساس البلاغة هو التواصل بهدف إحداث أثر نفسي في أهواء الآخرين الذين يتلقون الخطابات سواء أنشئ هذا الخطاب في ساحةٍ عامةٍ (الشوارع والأزقة، والملاعب...) أم في فضاءات افتراضية (فضاء الأنترنيت/شبكات التواصل الاجتماعي...). وإذا كان المنطلق عند الجمهور هو إحداث التأثير عبر جميع الاستراتيجيات الخطابية الممكنة (الأغاني، والتصفيقات، والهتافات، والشعارات، والتعاليق، والردود...) فيمكن اعتبار الخطابات الجماهيرية بلاغة، من زاوية أن منشئي هذا النوع من الخطابات فئة من الناس.

وانطلاقا من هذه المحددات، تبرز أهمية دراسة خطابات الجماهير؛ لأنها لم تعد منتمية إلى الخطاب الغوغائي أو السوقي، وإنما هي خطابات إنسانية بالدرجة الأولى تمثل تصورات، كما أنها تسلط الضوء على موضوعات مختلفة، منها ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، ومنها ما هو تلاعبيّ مضلل يقترب من السوقي والمبتذل.

وبخصوص اهتمام الباحثين والمختصين خلال السنوات الأخيرة ببلاغة الجماهير، يقول الباحث في البلاغة وتحليل الخطاب، بداية نؤكد أن "بلاغة الجمهور" حقل معرفي أسسه الأكاديمي المصري د. عماد عبد اللطيف، سنة 2005 استجابة علمية لظاهرة تزايد أهمية الجمهور في التواصل المعاصر. ويسعى هذا الحقل المعرفي إلى دراسة العلاقة بين بناء الخطاب (إنتاجه)، وأدائه، وتداوله من ناحية، واستجابات الجمهور الفعلية له من ناحية أخرى، سواء استجاباته في الفضاءات العامة أم الفضاءات الخاصة. وتظل هذه الاستجابات سلطة بيد المقموعين والمستضعفين من أجل إنشاء خطابٍ مضاد حول خطابات سلطوية أخرى تتحكم فيهم.

إن بلاغة الجمهور بهذا المفهوم مقاومة من نوع خاص يستخدمها الجمهور لتفكيك وتعرية الخطابات التي تتحكم فيه وتقمع حريته في التعبير.

وتنبع أهمية بلاغة الجمهور من كونها تمثل تواصلا من نوع خاص، فهي لا تترعرع إلا في أحضان الديمقراطية و الإيمان بحرية التعبير، ودراسة هذا النوع من البلاغة يجعلنا نتعرف على الجماهير وذائقتهم الجمالية ونفسياتهم وأفكارهم، وكذلك الوقوف على رؤى أبناء المجتمع وتفاعلهم مع القضايا العامة، وما يدور في رقعة الأوطان من أمور سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، لتكون المحصلة في النهاية الوقوف على مظاهر التعبير الفني وأشكاله، والنظر إلى بلاغة الجمهور بوصفها مرايا نتعرف من خلالها على النفسية الجمعية، بكل أبعادها الثقافية والفكرية.

لقد تزايد الاهتمام الأكاديمي ببلاغة الجمهور في العالم العربي، وأحد علامات هذا الاهتمام هو صدور مؤلفات وكتب جماعية في هذا الحقل المعرفي، منها على سبيل المثال لا الحصر: "بلاغة الجمهور: مفاهيم وتطبيقات"، ''كتاب البلاغة الثائرة خطاب الربيع العربي عناصر التشكل ووظائف التأثير''.

وأضاف: لقد تزايد الاهتمام الأكاديمي ببلاغة الجمهور في العالم العربي، وأحد علامات هذا الاهتمام هو: صدور مؤلفات وكتب جماعية ومقالات، وأطاريح جامعية تهتم بهذا النوع من الخطابات، فضلا عن ذلك تم تنظيم ندوات ومؤتمرات دولية ووطنية. ومن هذه المؤلفات نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

“بلاغة الجمهور: مفاهيم وتطبيقات”

''بلاغة الجمهور وآفاق تحليل الخطاب وتأويله''

''بلاغة جمهور كرة القدم تأسيس نظري ومثال تطبيقي''

وتسعى بلاغة الجمهور باعتبارها توجها معرفيا جديدا، إلى تقديم إضافة جذرية إلى البلاغة العربية المعاصرة؛ قصد استكشاف آفاق جديدة في دراسة وتحليل الخطابات الجماهيرية، واستجاباتهم في الفضاءات العامة والخاصة. كما تسعى إلى تطوير مداخل منهجية، وتطبيقات دقيقة مبسطة، لدراسة كمٍّ وافر من الاستجابات الجماهيرية على هذا النوع من الخطابات (الهتافات؛ والأغاني، والشعارات، والتصفيقات؛ والتعليقات).

وتروم دراسة الخطابات الجماهيرية إلى إكساب الأفراد مهارات تجعلهم فاعلين في التواصل الجماهيري، في أفق أن يؤدى ذلك إلى تحقيق تواصل يتسم بالإنسانية والمصداقية والنزاهة. أساسها إنتاج استجابات بليغة، تدعيم النبيل من الخطابات، ومقاومة المتلاعب منها.

وحول أوجه التكامل المعرفي في دراسة خطابات الجماهير يقول البعطاوي في حديثه لـ "تيلكيل عربي"، يمكن دراسة خطابات الجماهير من زاوية نظر متعددة، تبعا للتخصص المعرفي، لكن تظل النظرة العلمية الأنسب لهذه الدراسة هي الأخذ بالتكامل المعرفي الذي لا يعتبر المعرفة قاصرة على حقل دون آخر، وإنما لا بد من الأخذ بتلابيب جميع التخصصات، حتى نقف عند الأبعاد التعبيرية والتواصلية للجماهير، على اعتبار أن فهم خطابات الجماهير يقتضي منا تفكيرا مركبا (بتعبير إدغار موران)، لا يقيم حدودا بين العلوم.

إن الدعوة إلى تبني تكامل معرفي في دراسة خطابات الجماهير، لا يعني تطفل العلوم بعضها على بعض، أو تدخل بعضها في شؤون بعض، لأن هذا من شأنه أن يشوش على كل تخصص، ولأنه ليس ثمة علم داخل علم، فلكل علم موضوع محدد ومنهج معين، وليس من المناسب أن تتداخل المواضيع والمناهج مع بعضها، إنما القصد من التكامل المعرفي في دراسة الخطابات الجماهيرية هو إحداث قيمة مضافة وإيجابية بتضافر جهود عَلَمَيْن أو أكثر في ظاهرة التفكير المركب للجمهور، خاصة أنه خطاب معقد في بنياته، ويصعب فصل مكوناته، لأننا أمام تواصل إنساني من نوع خاص.

ومن التخصصات التي اهتمت بتحليل خطابات الجماهير نجد: حقل الدراسات الثقافية، وتحليل الخطاب، ودراسات التواصل، والبلاغة؛ وعلم نفس الجماهير؛ وعلم الاجتماع...وتلاقحها في إطار التكامل المعرفي كفيل بفهم تأثير خطابات الجماهير على الآخرين، وأبعاد أشكاله التواصلية.

وأضاف: المجموعة هم باحثون أكاديميون ينتمون إلى الجامعة المغربية، ويهتمون بحقل البلاغة وتحليل الخطاب، ولديهم إسهامات في هذا الباب، منها: المشاركة في الندوات الدولية والوطنية، ونشر المقالات العلمية، أو المشاركة في تأليف الكتب تنسيقا وإشرافا، إيمانا منهم بأن البلاغة في وقتنا الراهن أضحت أكثر من أي وقت مضى مرتبطة بالحياة الإنسانية، فحيث ما وجد التأثير والإقناع، وجدت البلاغة باسطة جناحيها. لأن غاية الإنسان في نهاية المطاف إثبات وجوده، وإثبات وجوده لا يتم عبر القمع ومصادرة حق الآخرين في الكلام، وإنما يقوم على استراتيجية التواصل الإقناعي.

وهكذا فمنسقو استكتاب ''البلاغة وآفاق تحليل الخطاب في بلاغة الخطاب الجماهيري'' لا يسعون إلى تبني توجه علمي معين، على اعتبار أن المعارف اليوم أضحت عابرة للحدود، والتأسيس المعرفي يقتضي منّا أن ننفتح على مختلف التخصصات والحقول المعرفية، قصد الوقوف عند الأبعاد التأويلية للخطابات الإنسانية، واكتشاف استراتيجيتها التأثيرية والإقناعية، وكذا التلاعبية التضليلية، لأن الهدف في المحصلة النهائية هو تخليق الخطاب.