في حضرة الأمن الوطني.. ذاكرة مؤسسة وسيادة وطن

محمد فرنان

بقلم: دة إيمان الرازي - أستاذة محاضرة بجامعة محمد الخامس بالرباط

في كل 16 ماي من كل عام، يستحضر المغاربة ذكرى تأسيس الأمن الوطني، وهي مناسبة لا تقف عند حدود الاحتفال الرمزي، بل تتجاوزها لتكون لحظة تأمل جماعي في مسار مؤسسة شكلت، منذ نشأتها في 16 ماي 1956، أحد أعمدة الدولة الحديثة، وأداة مركزية في ترسيخ السيادة الوطنية وبناء دولة القانون.

إن بروز الأمن الوطني كمؤسسة وطنية جاء في سياق سياسي واجتماعي معقد، تميز بمرحلة الانتقال من الحماية إلى الاستقلال، ما فرض على الدولة الناشئة أن تؤسس جهازا أمنيا يعكس هويتها الوطنية ويعبر عن طموحاتها في حماية النظام العام وضمان الاستقرار الداخلي.

لقد كان الرهان الأول منذ التأسيس هو القطع مع البنيات الأمنية الاستعمارية، وبناء جهاز يعكس قيم الوطنية والانضباط، وينتصر لقيم المواطنة والعدالة، وهو ما تطلب مجهودا ضخما على مستوى التكوين، والتأطير، وإرساء منظومة أخلاقية تحكم الممارسة الأمنية. ومع تعاقب العقود، شهدت المؤسسة الأمنية تحولات عميقة، سواء على مستوى المهام أو الوسائل، مستجيبة للتحولات المجتمعية، ومتفاعلة مع المتغيرات الدولية التي فرضت أنماطا جديدة من التهديدات الأمنية.

لقد انتقلت مهام الأمن الوطني من مجرد حفظ النظام العام إلى المساهمة في محاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة، وتبييض الأموال، والاتجار بالبشر، وهي مهام معقدة تتطلب تأهيلا تقنيا عاليا، وتنسيقا وطنيا ودوليا.

ورغم جسامة التحديات، فقد أبان الأمن الوطني عن مهنية عالية، وكفاءة متزايدة، جعلت من المؤسسة نموذجا في الاستباق، وفي بناء الثقة بين المواطن والجهاز الأمني.

فلطالما ارتبطت صورة الأمن، في المخيال العام، بالقوة والردع، لكن تحولات العقود الأخيرة أرست صورة جديدة لرجل الأمن، باعتباره خادما للصالح العام، وشريكا في تنمية المجتمع، وضامنا للحقوق والحريات.

وقد تجلت هذه التحولات في السياسات الجديدة التي اعتمدتها المديرية العامة للأمن الوطني، من حيث تحديث البنيات، واعتماد الرقمنة، والارتقاء بالتكوين، والانفتاح على المجتمع المدني، فضلا عن حرصها على احترام القانون والتقيد بمبادئ حقوق الإنسان، بما يعكس انخراط المؤسسة في المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي.

إن ذكرى تأسيس الأمن الوطني ليست فقط لحظة اعتراف بمجهودات نساء ورجال الأمن الذين يشتغلون في صمت وتفان، بل هي أيضا دعوة لتقوية جسور الثقة، ومناسبة لإعادة التأكيد على مركزية الأمن في التنمية، فالأمن ليس فقط شرطا للاستقرار، بل رافعة للاستثمار، ودعامة للعدالة الاجتماعية، ومقدمة لأي مشروع إصلاحي يروم بناء دولة قوية وعادلة. ومن ثم، فإن تخليد هذه الذكرى هو احتفاء بمسار مؤسساتي وطني، واحتفاء بالقيم التي يمثلها الأمن في وجدان الشعب: قيم التضحية، والانضباط، ونكران الذات.

وإذا كان الماضي قد صاغ لهذه المؤسسة تاريخا مشرفا، فإن المستقبل يطرح رهانات جديدة، تقتضي مواصلة التحديث، وتوسيع أفق الحكامة الأمنية، وتعميق انخراط الأمن الوطني في صلب المشروع المجتمعي، بما يضمن للمواطن مزيدا من الأمان، وللوطن مزيدا من الكرامة والسيادة.