خاليد تزلين - فاعل نقابي
تعتبر النقابات من التنظيمات الاجتماعية المعاصرة التي ارتبط ظهورها بالثورة الصناعية بأروبا، لتنتقل مع الاستعمار إلى باقي البلدان المستعمَرة، واعتبر تأسيس النقابات إجابة موضوعية على طبيعة النظام الرأسمالي القائم على استغلال الطبقة العاملة، فكانت النقابات واجهة للصراع الطبقي.
جاءت فكرة العمل النقابي انطلاقا من تحول طبيعة العمل، مما نتج عنه ظهور طبقتين اجتماعيتين، لتتعرض مصالح العمال للتهديد أو الضرر مما اضطرهم إلى التكتل داخل النقابات،" فالعمل النقابي شكل من أشكال الصراع الطبقي التي يعرفها المجتمع الرأسمالي ... وله ارتباطات مع أشكال أخرى للصراع الطبقي ويتوفر في نفس الوقت على خصوصيات.
والعمل النقابي هو نضال تخوضه الطبقة العاملة على مستويات مختلفة محلية، قطاعية أو وطنية، ويهدف إلى الحد من الاستغلال وتطاول الرأسماليين على حقوق ومكتسبات العمال، لذلك فهو يبرز كشكل دفاعي، فالعمال مثلا لا يقومون بالأضراب من أجل الإضراب وإنما يضربون كرد فعل على الاستغلال."
إن مختلف النظريات السوسيولوجيا التي تطرقت للنقابات حاولت التركيز على جانب معين، وإغفال جوانب أخرى، وهذا الأمر قد يظهر الاختلاف الذي قد يصل إلى حد التناقض بين النظريات، لكنه في حقيقة الأمر تحقيق للتكامل في التعرف على الظاهرة النقابية من مختلف الجوانب.
وقد قسم الباحثون طبيعة النشاط النقابي وعلاقته بالحكومات وأرباب العمل إلى خمسة تيارات أساسية، "تيار المنفعة الاقتصادية الذي يرى أن النقابة تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الأجور، تيار تأمين منصب العمل ...، ثم تيار الصراع الطبقي، فالتيار السياسي الذي يهتم بالانشغالات السياسية والقانونية، وأخيرا تيار العلاقات الإنسانية الذي يعطي اهتماما أكبر للمطالب الاجتماعية ".
ظهرت هذه النظرية أول مرة في بريطانيا، وقد ربطت هذه النظرية ظهور النقابات بالثورة الصناعية، مما أفرز شروطا جديدة للعمل، مما أدى برب العمل إلى فرض سلطته على العامل، خاصة أن البحث عن الربح السريع عرض العمال لمجموعة من الأزمات كالبطالة والفقر، مما اضطر العمال إلى التكتل في اتحادات نقابية للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية في إطار الصراع مع رب العمل، وقد تم التركيز على مطالب معينة منها : "الأجور، مدة العمل، الضمان الاجتماعي... وهذا من أجل رفع الغبن والظلم الواقع عليهم".
وقد عمل العمال من خلال التكتل في نقابات إلى الضغط على أرباب العمل انطلاقا من وعيهم بان الوحدة بين العمال سوف تحقق المطالب التي يعجز عن تحقيقها الفرد لوحده، لأن عنصر التكتل هو حاسم في إنجاح الإضرابات التي يقودها العمال لانتزاع مطالبهم، " وللسبب نفسه أراد معظم أرباب العمل منع إنشاء النقابات في شركاتهم لأن الإضراب هو السلاح لإجبار أرباب العمل على الاعتراف بالنقابة والتفاوض معها، وليس مع كل موظف على حدة".
ومن خلال التحديدات السابقة، يتضح أن رب العمل يصبح بين مطرقة المطالب العمالية وبين الخسائر الناتجة عن توقف الإنتاج بفعل الإضراب، مما يجعل أمامه عدة خيارات، كالاستجابة للمطالب أو طرد العمال أو إعلان الإفلاس، وبهذا يكون المحدد الاقتصادي حاسما في العلاقة بين العمال وأرباب العمل. وفي بعض الحالات التي ترتفع فيها البطالة والتضخم، تتغير أهداف النقابة من المطالبة بالرفع من الأجور وتحسسيين ظروف العمل إلى الدفاع فقط عن عدم تسريح العمال، من أجل ضمان استمرار النقابة كتنظيم من جهة، والمؤسسة الإنتاجية من جهة ثانية.
وترى النظرية الاقتصادية أن الحديث عن النقابات هو حديث بالضرورة عن اليد العاملة، وما يربطها بشكل مباشر بالإنتاج والأجور والسياسات الاقتصادية لأي بلد، ورغم ذلك ركزت هذه النظرية على بعد واحد، وأغفلت أبعادا أخرى، فالاختلاف والتباين في رهانات الأفراد داخل التنظيم النقابي قد تشكل ظاهرة تستوجب الدراسة بدروها بعيدا عن البعد الاقتصادي.
ترى هذه النظرية أن على النقابات أن تسيطر على كل مناحي المجتمع عن خلال السيطرة على وسائل الإنتاج، عن طريق الإضرابات واستعمال العنف، بهدف الوصول إلى الحكم، وهذا التوجه يعتبر النقابات من التنظيمات مع السياسية أو المسيسة، التي يهمين فيها السياسي على النقابي، ويحتدم فيها الصراع الطبقي على أشده، ويصبح للطبقة العاملة حزب يسعى إلى تغيير التوازنات داخل المجتمع لصالح العمال والكادحين.
ويعتبر الفعل السياسي حاضرا بشكل من الأشكال داخل العمل النقابي، ويتخذ عدة مظاهر :"
- حماية وتعزيز المصالح المهنية (المادية والاقتصادية والاجتماعية) من أعضائها.
- إما المشاركة، كمجموعة مصالح أو هيئة وسيطة، في السلطة السياسية (أي من أجل الحصول على النظام سياسي).
- إما لتأكيد أو تنفيذ فلسفة أو أ المفهوم الإيديولوجي للمجتمع وهياكله الاجتماعية والاقتصادية،"
ففي الحالة الأولى يكون العمل على تعزيز حماية مصالح العمال يدخل في نطاق تفاوضي مع رب العمل، وهذا التفاوض في كنهه تفاوض سياسي لأنه يخضع الامر لمنطق القوة، هذا المنطق يعتمده كلا الطرفين،
أما في الحالة الثانية، فتسعى الحركة النقابية إلى الوصول للحكم عن طريق المشاركة في الانتخابات، أو التصويت على حزب سياسي دون أخر، أو التصويت العقابي على حزب ما، بمعنى ان الكتلة التي يشكلها العمال في اطار النقابات قد يكون لها تأثير كبير تغيير الخريطة السياسية للبلاد، وفي الحالة الثالثة تصبح الحركة النقابية امتداد للأفكار الأيديولوجية لحزب سياسي معين، وتعمل على تمريرها بين المنخرطين، بمعنى تصبح النقابة مجالا لاستقطاب الأشخاص للانخراط في العمل السياسي الحزبي.
وبالرغم من الأدوار السياسية التي قد تلعبها النقابات، فنجد تيارين متضادين، فالأول يرى بضرورة ابتعاد النقابات عن العمل السياسي، والاكتفاء بالنضال من اجل تحسين أوضاع العمال، وهناك من يرى عكس ذلك، أي يجب ان ترتبط النقابة بالسياسة، فتحسين أوضاع العمال الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن إلا في إطار النضال السياسي.
وهذا الامر نقله عبد الله القرطبي في كتابه سوسيولوجيا المقاولات في حديثه عن التنظيمات المسيسة نقلا " هنري منسبيرغ"،" إن السياسة هي عبارة عن مرض يصيب التنظيمات، وقد تلعب في الوقت عينه ضد وصالح النسق: من ناحية أولى يمكن للسياسة أن تفجر سيرورات الصحة والعافية التي تحظى بها التنظيمات وتخترقها حتي تؤدي بها إلى الزوال، لكن من ناحية ثانية، يمكن أن تشتغل السياسة لحساب تدعيم النسق وتقويته، وذلك كما تفعل الحمى التي تصيب الجسم منبهة إياه بخطر مرض مرتقب، ومن تمة تحريك الآليات الذاتية لحماية الجسم وتكيفه مع المستجدات".
غير أن النظرية السياسية خاصة الجانب الثوري الفوضوي لا يمكن تجسيده على أرض الواقع، وذلك لاعتبارات كثيرة، من بينها اهتمام النظام الرسمالي بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للعمال، وتحول الشركات إلى مؤسسات عابرة للقارات، حيث يصبح الإضراب دون تأثير على الإنتاج، كما أن طموحات العمال تختلف من شخص لأخر، فهناك من يناضل فقط لتحسين الوضع المادي ولا رغبة له في الوصول إلى الحكم، وحتى خبرة أغلب العمال في قيادة التنظيم تظل ضعيفة.
تعتبر هذه النظرية بشكل أو آخر امتدادا للنظريات السابقة، ويعتبر كارل ماركس رائد هذه النظرية، الذي يركز على البنية التحية ( البعد المادي ) في تفسير الظواهر الاجتماعية ومن بينها النقابات، ولقد أعطى اهتماما كبيرا لدراسة التنظيم النقابي الذي اعتبره الحل الأول والأخير للعمال لمواجهة جشع الرسمال والقضاء على التفاوت الطبقي.
وينطلق ماركس من التحليل التاريخي لظهور الرأسمال، والانتقال من النظام الإقطاعي إلى الرسمالية، مما أدى إلى ظهور طبقتين اجتماعيتين متعارضتين، الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، مقابل الطبقة العمالية (البروليتارية) المالكة لقوة العمل، هذه الأخيرة التي تقوم ببيع قوة العمل إلى رب العمل بأجر زهيد، ولا يستفيد من فائض القيمة، إضافة إلى أن النظام الرسمالي عمد إلى تقسيم العمل مما جعل العامل يحس بالاغتراب.
وبالتالي فمن يمتلك الموارد المادية قادر أن يتحكم في كل البنى الأخرى،" يرى ماركس أن المجتمع يتألف من بنيتين اثنين: بنية فوقية(SUPERSTRUCTURE) وبنية تحتية (INFRASTRUCTURE)، الأولى تتمثل في مجموع الأفكار والقيم الروحية والسياسية والقانونية والأخلاقية والدينية السائدة في المجتمع، أما البنية التحتية فتطلق على مجمل الظروف المادية الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة في المجتمع، كما أنها هي التي تتحكم وتحدد البنية الفوقية"
وانطلاقا من الظروف التي يعشها العمال وشعورهم بالاستغلال والحيف، ومن وعيهم بأهمية التحكم في البنية التحتية، فانهم ينخرطون في النقابات كعمل جماعي منظم لمواجهة الرسمال وأرباب العمل، وبالموازاة مع النضال النقابي لتحسين الشروط الاقتصادية للعمل، ينخرطون في العمل السياسي بهدف تغيير النظام السياسي الذي يكرس الاستغلال.
فالنقابات انطلاقا من هذه النظرية تعتبر الصراع الطبقي هو جوهر الصراع داخل المجتمع بهدف الانتقال إلى مجتمع تسوده المساواة وتنتفي فيه كل شروط التمييز الطبقي، ويمكن اعتبار هذا التيار الذي يقوده ماركس داخل النظرية الثورية تيارا تفاؤليا، يلخص ظهور النقابات فيما يلي:"
ظهور المجتمع الرسمالي وما نتج عنه من تغير في وسائل الإنتاج، الأمر الذي أثر في علاقات الإنتاج.
ظهور طبقتين اجتماعيتين واحدة تملك وسائل الإنتاج، وأخرى مستغَلة من قبل الأولى.
بداية التكتل العمالي نتيجة الوعي بوجودهم الاجتماعي الذي ما هو إلا انعكاس للوضعية الاستغلالية التي يعيشونها.
الصراع الطبقي وتحول الطبقة وتحول الطبقة العاملة من طبقة بذاتها إلى طبقة لذاتها واقتران العمل المطلبي بالسياسي."
لكن بمقابل طرح كارل ماركس الذي راهن على النقابات كواجهة رئيسية للصراع الطبقي ووسيلة الطبقة العاملة للوصول إلى السلطة، هناك طرح يعتبر ما جاء به ماركس فيه الكثير من التفاؤل، وركز هذا الطرح على العوامل التي تؤدي إلى فشل النقابات في تحقيق أهدافها، فهناك من يرى أن أدوار النقابات لا يتعدى النضال من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية للعمال، وهذا الأمر يفرض وجود قوة سياسية طلائعية تقود النضال المجتمعي ضد النظام الرسمالي، بمعنى أن النقابات لم تعد في واجهة النضال بل أصبحت تابعة للتوجه السياسي الذي يقوده الحزب، وبهذا الطرح سيكون دور النقابات القيام بصلة وصل بين الحزب السياسي والطبقة العاملة.
وبين هذين الطرحين، يظهر موقف ثالث مع روبرت ميشلز، الذي اهتم بدراسة البناء الداخلي للنقابات وبحث عن الأسباب التي تجعلها غير قادرة على القيام بوظائفها، بحيث تتحول إلى منظمات بيروقراطية خاضعة لحكم الأقلية وليس لإرادة العمال، موضحا أن غياب الديموقراطية الداخلية داخل التنظيمات النقابية ينعكس بشكل مباشر على الجوانب الخارجية، وينزاح التنظيم عن مهامه في الدفاع عن مصالح العمال إلى خدمة مصالح الأقلية الحاكمة التي تتواطأ من أرباب العمل وتقوم بمراكمة الامتيازات الشخصية.
وقد صاغ مشليز قانونا معروفا " القانون الحديدي للاوليجاركية" الذي يتضمن الأفكار الأتية:"
- اتساع التنظيمان العمالية وبالتالي عدم تمكن العمال من المشاركة في مناقشة القرارات وأتخادها.
- انقسام النقابات إلى أقلية حاكمة وأغلبية محكومة.
- الميل نحو التنظيم البيروقراطي ومركزية القرار.
- الاختلاف الوظيفي يؤدي إلى اختلاف اجتماعي وحتى أيديولوجي.
- التخصص والمعرفة التامة بجميع الجوانب التي تمكن الرئيس من إدارة التنظيم النقابي، الأمر الذي لا يتوفر لدي جميع العمال، مما يؤدي إلى إعادة انتخاب نفس الأعضاء في نفس المناصب واعتقاد العمال في ضرورة وجود قادة للتنظيم."
وأضاف ميشليز ان صعوبة تحقيق الديمقراطية يمكن إرجاعه عدم قدرة التنظيم في إيجاد الوسائل التي تعكس كل الآراء المعبر عنها داخله، إضافة إلى صعوبة ممارسة الديمقراطية داخل التنظيمات التي تدخل في صراع مع تنظيمات أخرى، "وقد قام ميشليز بتحليل ديناميات العلاقات بين الصفوة والجماهير من خلال مناقشة قضية الديمقراطية، فعندما يصل القادة إلى مراكز القوة يصبحون جزءا مكملا للصفوة، ومن تم تصبح مصالحهم متعارضة مع مصالح الجماهير، لانهم حينئذ سوف يسعون إلى تحقيق أوضاعهم حتى لو كانت على حساب التنظيم"
لكن هذا الطرح الذي جاء به ميشليز ركز على جانب معين، وأغفل إمكانية تغيير القادة النقابيين لأفكارهم، وتغاضى عن الصراع الذي يمكن أ>ن ينشأ بين القيادة والقواعد، إضافة إلى تطوير العمال لقدراتهم الفكرية والعلمية مما يمكنهم من احتلال مراتب مهمة داخل التنظيم.
وإلى جانب النظريات السابقة هناك نظريات أخرى حاولت تفسير ظهور النقابات، كالنظرية السيكولوجية، التي تعتبر العمل النقابي سوى ردة فعل نفسية من طرف العمال نتيجة قلة مناصب الشغل، وانطلاقا من خوفه من فقدان العمل يضطر إلى التكتل داخل النقابات كواجهة دفاعية لحماية مناصب الشغل، ثم بعدها يتم الانتقال إلى المطالب الاقتصادية والاجتماعية للعمال التي تعتبر غير ذات أولوية بالنسبة للعامل الذي يحس بنوع من الخوف من فقدان الشغل، وعدم قدرته على إيجاد عمل أخر نتيجة ندرة المناصب.
وكل النظريات السابقة ركزت على جانب معين وأغفلت جوانب أخرى، فمنها من اعتبر الجانب النفسي محددا في ظهور النقابات، ومنها ما أرجع الأمر إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ومنها من ربط ذلك بالعوامل السياسية، وتركيز كل نظرية على جانب معين، يجعل الصورة غير واضحة بالنسبة لقارئ نظرية دون أخرى، وأمام هذا الإشكال يصبح التعرف على كل وجهات انظر أمر ضروريا للتعرف على الصورة كاملة، وليس فقط الاكتفاء بالنظريات السوسيولوجيا، بل الانفتاح على كل العلوم لتي تطرقت للظاهرة النقابية، كالسياسة والاقتصاد والتاريخ، من أجل تكوين معرفة حقيقية على الظاهرة في إطار تكامل المعارف والمناهج.