في مديح نهاية الأشياء واللحظات الأخيرة

هادي معزوز

        كيف كان سيبدو شكل العالم لو يكن الزمن؟!

        تظافرت العديد من العلوم والمعارف كي تجيب على هذا السؤال وهي مشدوهة مهووسة بأثر الزمن، تجافيه تارة وتتودد إليه تارة أخرى. تحاول فهمه فيستحيل الفهم لغزا واستشكالا عميقا. تتساءل الفيزياء: ما الزمن؟ سؤال طرحه كبار الأعلام من أرسطو إلى هاوكينج مرورا بإنشتاين... تتساءل الفلسفة أيضا مع القديس أغسطين وكانط وبرغسون وجانكلفيتش... الأنثروبولوجيا بدورها مريضة بالزمن من خلال استقصاء ما كان يفعله الإنسان سابقا لإيجاد تفسير لما يقوم به اليوم، والجيولوجيا حينما تبحث في طبقات الأرض كي تقسمها إلى أحقابٍ، لكل حقب كائناته وخصوصياته، إنما تبحث في تاريخ ماضي الأرض.. نفس الأمر يسري على الفنون خاصة الرسم والتصوير والسينما، إنها تحاول القبض على اللحظة من أجل تجميدها، أو من أجل العودة إليها وإضفاء طابع الحاضر الدائم عليها حتى ولو كانت ماضيا انتهى أمره. والطب النفسي هو الآخر يقوم على هذا الذي مضى، من خلال طرح أسئلة على المريض أو بالأحرى على ماضي المريض، كي تفهم أكثر فأكثر أعراض الحاضر. أما الأدب فلن يستقيم الجانب السردي فيه دون التوسل بزمن الماضي. وطب التجميل أيضا ينتعش بأثر الماضي على التقاسيم، فيحاول محوه وإعادة توهج الوجه كي يصبح حاضر الوجه ماضيا وقد عاد ساخرا من العبارة المأثورة: "لا يصلح العطار ما أفسده الدهر" تلك إذن هي اللعبة التي لا يبدو أن العالم سيستقيم دونها.

        والزمن بدوره يصاب بالمرض حينما يسقط داخل دائرة طلب استرجاع ما لا يقبل الاسترجاع l’irréversible فماذا تبقى لنا منه وهو الذي يتدفق ويسري دون الالتفات إلى الوراء؟

        لقد تبقى الاحتفال بالنهايات! نحتفل مثلا بحصول شخص على التقاعد، نقدم له تذكارا مرفوقا بآيات الشكر والتقدير على ما منحه من زمن حياته للعمل. يا لها من مسرحية رديئة نصها وحوارها وإخراجها، نكون قد تخطينا منها كل الصعاب والعراقيل التي أصابت الشخص المتقاعد بأمراض مزمنة يحملها كحمل أطلس لقبة السماء وما يرافق هذا الأمر من عناء. أما إذا عدنا إلى ماضي الموظف، فسنلاحظ أنه كان تعيسا بعمله الذي نحتفل بنهايته الآن. فهل هو احتفال بالتخلص من عذابه؟ أم احتفال بنهايته وبداية لحظة قصيرة وقد اكتُشِفت الخذعة التي انطلت عليها لكن بشكل متأخر؟

        نحتفل أيضا بنهاية المشوار الدراسي، والحصول على الشهادة التي تثبت الدرجة العلمية للفرد، هو احتفال بنهاية تعب الجد والكد، واعتراف ضمني لمسيرة شاقة لا تحمل معها كل من بدأ، وإنما كلما استمرت في المسير انزلق منها العديد. لكن ألم يكن هذا المشوار محفوفا بالصعود والنزول، والتردد والإقدام، وخوض المغامرة والتفكير في الجنوح عنها. وعليه فهل هذا الاحتفال فرح بالوصول إلى النهاية، أم فرح ببداية الجزء الثاني من الحياة أي العمل الذي ينتهي بالتقاعد؟!

        ونحتفل في نفس السياق بزميل قرر الانتقال إلى منصب آخر أو الاشتغال بمؤسسة أخرى غير التي كان بها، نقول في حقه كلمات جميلة وطيبة قد تكون صريحة دون مواربة، أو قد تكون بدافع المجاملة ليس إلا. هذا الاحتفال أيضا باللحظات الأخيرة في المنصب القديم ليس سوى احتفالا ضمنيا بالتخلص منه وإلا لما فكر في تغييره. لذا أين نصنفه، هل في خانة الفرح بالتخلص من هذا الذي لكن راضيا عليه، أم بدافع خوض المغامرة الجديدة؟

        نحتفل بنهاية المشوار، لكن النهاية في حد ذاتها ليست مطلوبة لأنها تفيد الانتهاء. فتصبح عبارة: "أنهيت هذا الشيء" مرادفة لعبارة: "لقد انتهيت" أي وصلت إلى درجة الإنهاك بينما الزمن لعب فيّ لعبته التي لا رادّ لها. علما أن من يطلب البداية عليه قبول النهاية لأنها متولّدة منها وفيها وليست مناقضة لها.

        لكن الاحتفال بالنهايات لا يقتصر فقط على الأحياء بل إنه يصل أيضا إلى الأموات وإن كان في الأصل احتفال الأحياء بنهاية الأموات. نقول في الميت المحاسن ثم لا نشير إلى المناقب مهما كانت درجة وقعها، تخيلوا لو أعطيت الكلمة لشخص في حق ميت، ثم قال كل شيء دون تنميق ولا تزيين، ألن يرميه الجميع بأقدح النعوت بينما لم يقم بأي شيء سوى بتكسير التواطؤ وعدم الكذب...؟ حقا سنتهمه بإفساد حفل حزين أضاف إليه حزنا في حزن، لكن مهما بدت لنا طقوسا حزينة فإنها احتفال في حد ذاته، احتفال يختلف من ثقافة إلى أخرى، لكنه في نهاية المطاف احتفال بنهاية اللحظة الأخيرة، أي بنهاية زمن تبخر وانتهى.