عكست قضية قتل الصحافي السعودي "جمال خاشقجي" في قنصلية بلاده في مدينة اسطنبول التركية حربا شرسة تدور راحها في المواقع الإليكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، تعتمد الكذب والاختلاق والتشويه ، أسلحة لمواجهة الخصوم.
إعفاء محمد بن سلمان
في 20 أكتوبر، نشر موقع صحيفة الأوطان الإلكترونية تقريرا عن إعفاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من ولاية العهد.
نسب الموقع الخبر إلى وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) وقال إن العاهل السعودي الملك سلمان وقع مرسوما بعزل الأمير على خلفية الضغوط المتنامية التي اقترنت باختفاء الصحفي جمال خاشقجي.
كان التقرير مزيفا. فلم يحدث أن نشرت "واس" مثل هذا التقرير وتمت الاستعانة في صياغة الخبر والصورة المصاحبة له بمرسوم ملكي صدر من قبل عن عزل ولي العهد السابق.
ويعد التقرير والموقع الذي نشره جزءا من حملة إعلامية شرسة أعقبت مقتل خاشقجي صاحب أحد الأصوات البارزة الناقدة للحكومة السعودية والذي شوهد آخر مرة وهو يدخل القنصلية السعودية في اسطنبول في الثاني من أكتوبر.
أغرقت الحسابات الآلية وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة حيث يروج الكثير منها لتأييد السعودية وبث الشكوك في الادعاءات التي تقول إن المملكة متورطة في قتل خاشقجي.
غير أنه كان هناك جهد آخر في المقابل يسعى لتلطيخ الصورة بشكل عام باستخدام مواقع الأخبار الكاذبة وحسابات الرسائل الآلية لإثارة حالة من الارتباك عن التطورات داخل حكومة المملكة.
ويبين تحليل أجرته رويترز أن موقع صحيفة الأوطان الإلكترونية واحد من شبكة تتألف مما لا يقل عن 53 موقعا، تدعي أنها منافذ إخبارية حقيقية باللغة العربية، شاركت في نشر معلومات زائفة عن الحكومة السعودية ومقتل خاشقجي.
وقال محققون في شركة كليرسكاي الإسرائيلية لأمن الإنترنت إن استعراضا لعناوين الخوادم المضيفة وتفاصيل التسجيل أوضح أن هذه المواقع تعمل في إطار شبكة واحدة.
كما أن الكثير منها تتشابه تصميمات صفحاته وعناوينه الإلكترونية أو ينشر تقارير واحدة أو متشابهة من الأخبار الكاذبة.
كان التقرير الذي نشرته صحيفة الأوطان الإلكترونية عن إعفاء الأمير محمد وتعيين شقيقه وليا للعهد بسبب مقتل خاشقجي نموذجا مثاليا لهذه التقارير.
وذكر تقرير آخر نشره موقع اسمه awwtarnews.com في 22 أكتوبر أنه تم تغيير أحد مساعدي الأمير محمد للسبب نفسه. ولم يكن ذلك التقرير حقيقيا.
وبعد نشر تقارير الأخبار الكاذبة على الإنترنت عمدت الحسابات الآلية إلى نشرها على تويتر واستخدم كثير منها روابط لمواقع متعددة من مواقع الشبكة.
وأوقف موقع تويتر هذه الحسابات بعد أن تلقى استفسارات من رويترز عنها. ولم يرد الموقعان والحكومة السعودية ووكالة الأنباء السعودية على طلبات من رويترز للتعليق.
المحرك الرئيسي في مصر
وتبين تفاصيل المواقع أن شخصا يدعى محمد ترابي له عنوان مسجل في مصر هو صاحب أغلبية المواقع الثلاثة والخمسين ومشغلها. وعند الاتصال به هاتفيا رد شخص قال إنه محمد ترابي وأكد أنه صاحب المواقع لكنه أغلق الهاتف عندما طلب منه تقديم المزيد من المعلومات.
وفي تعليقات لاحقة بالبريد الإلكتروني نفى صلته بالشبكة وقال إنه لم يفهم الأسئلة التي طرحت عليه هاتفيا. وقال "آسف لا أستطيع أن أفيدكم. ليست لي أي صلة بالمواقع التي تتحدثون عنها".
الجيش الإلكتروني السعودي
قالت الحكومة السعودية في البداية إنها لا تعلم شيئا عما حدث لخاشقجي المقيم في الولايات المتحدة والكاتب بصحيفة واشنطن بوست وذلك عندما اختفى عقب دخوله القنصلية السعودية في اسطنبول.
وتحت الضغط لكشف المزيد من المعلومات عن مصير خاشقجي وفي أعقاب تأكيد تركيا أنه قتل غيرت الرياض روايتها للأحداث وقالت إنه مات في شجار نشب بالقنصلية.
وعندما ثارت الشكوك في هذه الرواية أيضا طرحت الرياض تفسيرا جديدا وعزت موته إلى عملية دبرها أفراد سعوديون تجاوزوا الصلاحيات الممنوحة لهم.
وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن السلطات السعودية دبرت "أسوأ عملية تستر على الإطلاق"، لكنه أدلى أيضا بتصريحات استرضائية سلط فيها الضوء على دور الرياض كحليف للولايات المتحدة في مواجهة إيران والمتطرفين الإسلاميين بالإضافة إلى مشترياتها من الأسلحة الأمريكية.
وقالت ليزا ماريا نيوديرت الباحثة بمعهد أكسفورد للإنترنت التابع لجامعة أكسفورد إن موت خاشقجي ساهم في إبراز السبل التي تستطيع الحكومات بها التلاعب على نحو متزايد بالمعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي للترويج لأغراضها السياسية.
وقالت "إنشاء صفحات للتضليل الإعلامي تدعي أنها تنشر أخبارا حقيقية للتأثير في قضايا جارية خلافية ومثيرة للجدل باستخدام حسابات وهمية وأفراد غير حقيقيين لإخفاء أصحاب الهجمات الحقيقيين يمثل إلى حد ما ألف باء الدعاية الإلكترونية".
وفي قلب الجهد الإلكتروني السعودي يأتي سعود القحطاني أحد المساعدين المقربين من ولي العهد الذي تم تعيينه في أوائل سنوات الألفية الثالثة لإدارة جيش للإعلام الإلكتروني مكلف بحماية صورة المملكة وذلك وفق ما ذكره مصدر على صلة بالديوان الملكي.
وعندما قادت الرياض مقاطعة اقتصادية لقطر في يونيو 2017 كان القحطاني في صدارة الهجمات الإلكترونية عليها. وحث السعوديين عبر تويتر على نشر أسماء من يبدون التعاطف مع قطر في تغريدات عبر وسم "القائمة السوداء".
تم عزل القحطاني في 20 أكتوبر بسبب ما تردد عن دوره في مقتل خاشقجي. وقال مسؤول سعودي كبير إن القحطاني فوض أحد مرؤوسيه في إجراء مفاوضات لإعادة خاشقجي إلى السعودية. ولم يرد القحطاني على استفسارات من رويترز في ذلك الوقت.
ولم تكشف السلطات السعودية عما إذا كان معتقلا أم لا كما أن وضع جيشه الإلكتروني الذي يطلق عليه اسم الذباب الإلكتروني غير واضح. ولم ترد السلطات السعودية على طلب للتعليق.
وينشط خصوم السلطات السعودية أيضا على الإنترنت. فقد تعرفت فيسبوك وشركات أخرى على عملية يشتبه أنها إيرانية استخدمت في غشت الماضي شبكة من المواقع الإخبارية الوهمية وحسابات التواصل الاجتماعي الوهمية لنشر معلومات مضللة استهدفت السعودية.
ونفى مسؤولون إيرانيون هذه الاتهامات ووصفوها بأنها "منافية للعقل".
الجاني الغامض
قالت تويتر إنها ألغت عددا كبيرا من الحسابات لمخالفتها شروط الاستخدام على مدار الأسبوعين الماضيين وكان منشأ الكثير منها منطقة الخليج.
وقال متحدث باسم تويتر "الاستغلال المتعمد للمنصة والرسائل المزيفة الموجهة للمستخدمين من خلال عمليات منسقة تمثل انتهاكا لقواعد تويتر وسنواصل تطبيق سياساتنا بصرامة".
وقد توصلت رويترز إلى أن مثل هذه الحسابات الوهمية ومستخدمين سعوديين من ذوي النفوذ نشروا مرارا وسوما على تويتر منها "مخابرات قطر تقتل خاشقجي" و"السعودية الأعظم" وذلك رغم أنها لم تتوصل إلى دليل على أن القحطاني أو الحكومة السعودية يتحكمون في تلك الحسابات أو يوجهونها.
واتهمت صحيفة سبق أكبر الصحف الإلكترونية السعودية وسائل الإعلام العالمية بما فيها رويترز باستخدام اختفاء خاشقجي لمحاولة النيل من الحكومة وأصدرت بيانا في 21 أكتوبر قالت فيه إن تقريرا إخباريا زائفا انتشر مستخدما اسمها.
وقال أوهاد زايدنبرج المحلل بشركة كليرسكاي الإسرائيلية إن الموقع الذي اكتشفت رويترز أنه ينشر أخبارا زائفة عن الحكومة السعودية يعمل في إطار الشبكة ذاتها منذ 2017.
وأضاف زايدنبرج، الذي سبق أن تتبع حملات الدعاية الإلكترونية لحساب وحدة استخبارات النخبة الإسرائيلية 8200، أنه تم إغلاق جميع هذه المواقع باستثناء ثلاثة مواقع رغم أنه لم يتضح الطرف المسؤول عن إغلاق الشبكة.
غير أن المواقع التي لا تزال تعمل على الإنترنت وكذلك النسخ المحفوظة من المواقع التي تم تعطيلها تسلط الضوء على عمليات الشبكة وأهدافها المتمثلة في تقويض الرواية الرسمية السعودية للأحداث وإثارة حالة من الارتباك حول حكومتها.
وقال زايدنبرج "السعودية تعتبر واحدة من القوى الرئيسية في الشرق الأوسط. ومن ثم فإن كثيرين من مديري مواقع الأخبار الكاذبة يستهدفون الجمهور السعودي بوتيرة متزايدة".
وأضاف أنه لا يمكن التعرف على الجاني في المرحلة الحالية.
وامتنعت شركات هتزنر وجودادي وكلاودفلير لاستضافة المواقع ودعمها عن الكشف عن أي معلومات عمن يدير المواقع مستندة إلى سرية بيانات العملاء.