خطفت ثلاثة كتب جديدة الأضواء في الدورة السادسة والعشرين لمعرض الكتاب والنشر في الدارالبيضاء، وهي كتب تتوحد في كونها شهادات للتاريخ، أو مذكرات يصبو أصحابها إلى عرض شهادتهم التاريخية لتكون وثيقة لدراسي تاريخ المغرب المعاصر.
يتعلق الأمر بكتاب رئيس مجلس المنافسة إدريس الكراوي "عبدالرحمان اليوسفي: دروس للتاريخ"، وكتاب "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة"، لمبارك بودرقة، ثم الكتاب الثالث هو "25 عاما في معتقلات تندوف" للنقيب الأسير في سجون الانفصاليين علي نجاب.
الكتب الثلاثة استقطبت حضورا كبيرا خلال تقديمها أثناء فعاليات معرض الكتاب، ولم يقتصر الأمر على الفضوليين من القراء، بل استأثرت أيضا بوجوه كبيرة في عالم السياسة المغربية، سواء ممن اعتزلوها أو المستمرين في ممارستها إلى اليوم.
مرافعة من أجل تجربة التناوب
جرت العادة أن يختار السياسيون، من عشاق الكتابة، الاعتزال والركون إلى الظل، ثم الإقدام على إصدار مذكراتهم، وهو الشيء الذي ينتفي في حال الكراوي، ليس لأن الرجل شغل مهمة مستشار لليوسفي مكلف بالملفات الاجتماعية في إبان حقبة التناوب، ما بين 1998 و2002، ولكن لأن الرجل خرج ليحكي عن خيارات اجتماعية، منها ما جرى تبنيه ومنها ما جرت عرقلته.
يقول الكراوي، في تصريحه لـ"تيلكيل عربي"، إن فكرة إصدار كتاب عن تجربة التناوب التوافقي هي فكرة قديمة، وأن الاشتغال عليه دام لثلاث سنوات، كما أن صدور مذكرات تذهب في هذا الاتجاه، لكنها زاغت عن الموضوعية ما جعله يصر على إصدار شهادته.
ويقول الكراوي "لا يجب أن ننسى أني أواصل ممارسة عملي كأستاذ جامعي، وبالتالي فإن هم وعشق الكتابة أمر واجب، ويدخل في نطاق عملي".
يعتبر الكاتب إدريس الكراوي أن جزءا من الكتاب، الذي طبع وصفف بشكل أنيق وعلى ورق فاخر، ويصل سعره إلى 180 درهما، جاء كشهادة للتاريخ بعدما نسبت كتب أخرى مجموعة من إنجازات حكومة التناوب التوافقي إلى جهات أخرى، ويخص بالتحديد قانون التغطية الصحية الإجبارية الخاصة بالفئات المعوزة.
ووفق الكراوي، فإن الكتاب يعتمد على منهجية تمزج بين ثلاثة مستويات، التحليل المجرد لوقائع عايشها ميدانيا، ثم الرصد الوثائقي لإصلاحات اجتماعية مست جوانب من عمل حكومة التناوب كان مكلفاً بإعداد الملفات بشأنها ومتابعة إجراءاتها، كقضية أعداد وثيقة توحد البرامج الحكومية لأحزاب الأغلبية آنذاك، وهي الوثيقة التي تعرضت لعراقيل كي لا يجري تحقيق توافق بين أحزاب مختلفة إيديولوجيا، وأخيرا الشهادات التي استقاها من خلال معايشته للأستاذ اليوسفي في مرحلة قوية من التاريخ السياسي للمغرب المعاصر.
ينقسم الكتاب إلى عشرة أجزاء تحاول أن تسلط الضوء على عبد الرحمن اليوسفي كما عرفه ادريس الكراوي وتجربة التناوب، وتقييم مقارن لبرامج الأحزاب السياسية في أفق تشكيل حكومة التناوب، والإصلاحات الاجتماعية الكبرى في عهد حكومة التناوب، وحكومة التناوب وقضية التشغيل، والحوار الاجتماعي، خاصة خلال المفاوضات العسيرة مع المركزيتين النقابيتين الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
العودة إلى 23 مارس
يبرز أهمية الكتاب الثاني وهو "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة" للمناضل اليساري والمنفي السابق وعضو هيئة الإنصاف والمصالحة مبارك بودرقة، في كونه يعود إلى فترة الصراع بين الحركات اليسارية، التي اقتنعت بداية السبعينات بأن الحوار مع السلطة أمر ميؤوس منه، وأن الحل هو الكفاح المسلح من أجل سيادة كلمة الشعب والقوى البروليتارية.
وتنبع أهمية الكتاب، الذي خطه اتحادي أيضا، من كون صاحبه محام، ولاجئ سياسي بالخارج من 1973 إلى 2001، وعضو مؤسس لحلقة أصدقاء باهي (عام 1996)، وعضو مؤسس لتجمع اللاجئين السياسيين المغاربة بفرنسا (سنة 1992، كما كان مبارك بودرقة سنة 1974 منسقا للمنظمة الاجتماعية للاجئين المغاربة بالجزائر وليبيا، ما يتيح للرجل فرصة للاطلاع على مجموعة من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالمنفيين المغاربة في الخارج، الذين فروا من مطاردات السلطة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
يقول مبارك بودرقة، أثناء تقديم كتابه على هامش فعاليات الدورة 26 لمعرض الكتاب والنشر، إن كتابه عبارة عن جزء من تاريخ المغرب الحديث، داعيا الشباب المغربي إلى البحث والقراءة من أجل معرفة حقيقة التاريخ المغربي.
ويضيف بودرقة أن الهدف من البحث في التاريخ، ليس هو العيش واجترار الماضي، مشيرا إلى أنه من الواجب معرفة الماضي من أجل بناء الحاضر وتشييد المستقبل.
ويعتبر بودرقة في تقديم كتابه أن عمله التوثيقي يتناول أحداث 3 مارس 1973، بعد أن مضت عليها حوالي سبعة وأربعين سنة، وقد صدرت في شأنها عدة كتب ودراسات، يبقى أهمها كتاب "أبطال بلا مجد" للمهدي بنونة، ابن الفقيد الراحل محمود بنونة، ويؤكد أن الوقفات الكبرى التي كانت له مع ذاكرات متعددة في السنوات الأخيرة، وما تركتها من أصداء، حيث كان يجدد علاقته بهذه الأحداث، غير ما مرة وعلى أكثر من مستوى، دفعته إلى حسم أمره، بتخصيص كتاب لها.
ويتابع بودرقة في تقديم كتابه "وفي تفاعلي مع كل ذلك، رجعت تدريجيا لكل مخزوني وما بين يدي، من وثائق، ألزمني توجس من تعرضها للضياع، على مدار أكثر من أربعة عقود من الزمن. ومن قلب كل ذلك، نبع قراري، متشجعا بتعطش وجدته لدى شباب اليوم، وكانت ذروته، التواصل المثير الذي فاق مئات الآلاف، بمناسبة حديث رمضاني، قارب شذرات من أحداث 3 مارس 1973، في برنامج "زمن الحكي" سنة 2011".
وتعتبر أحداث 3 مارس 1973، آخر حركة مسلحة شهدها المغرب منذ حصوله على الاستقلال، متوجة مسار مرحلة، عرفت فيها المغرب أحداثا عنيفة، عكرت، منذ البدء، صفو الاستقلال، الذي كان ثمرة تعاون وتنسيق، بين القوى الوطنية والمقاومة المسلحة وجيش التحرير والعرش.
ويتابع بودرقة "لقد عاد الصراع مبكرا، بين نفس القوى التي كانت المحرك الأساسي للعمل الوطني، بفعل غياب الحوار الديمقراطي والمؤسسات التي من شأنها أن تضمن التنافس الشريف في التداول على السلطة، من خلال اقتراع نزيه، في إطار المسؤولية والمحاسبة، يفتح الطريق لبناء دولة الحق والقانون".
ويسترسل المتحدث ذاته: "أثرت أحداث 3 مارس 1973، بتداعياتها الأليمة داخليا، مخلفة وراءها المئات من الضحايا، من كل الفئات، نساء ورجالا وأطفالا، في مناطق مختلفة، خاصة وأنها اندلعت مباشرة بعد محاولتين انقلابيتين، خلال سنتي 1971 و1972. وكانت لها أصداؤها المؤثرة خارجيا، حيث قام المرحوم الحسن الثاني، باستدعاء القائم بالأعمال بالسفارة الفرنسية بالرباط آنذاك، لعدم وجود السفير الذي تم سحبه منذ اختطاف المهدي بن بركة، يوم 29 أكتوبر 1965، وطلب منه أن يلتمس من الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو تفعيل الاتفاق العسكري المبرم بين المغرب وفرنسا، القاضي بالتدخل وتقديم الدعم، في حال تعرض أحد البلدين لهجوم خارجي، لا سيما أنه اعتبر أن المغرب تعرض لهجوم مسلح من طرف الجزائر".
ويواصل بوردقة حكيه "عقد الرئيس الفرنسي مجلسا طارئا، بعد توصله بهذا الطلب، كلف من خلاله الضابط المدير العام لجهاز الاستخبارات الخارجية والاستخبارات المضادة آنذاك، الكونت ألكسندر دي مارينش، الذي شغل هذا المنصب بين سنتي 1970 و1981، بالقيام بتحريات في الموضوع وتقديم تقرير بشأنها، وقدم هذا المسؤول تقريرا مفصلا، أكد فيه صحة تسريب الرجال والسلاح من الحدود الجزائرية المغربية، لكن دون علم مختلف السلطات الجزائرية، فكان رد الرئيس الفرنسي على الملك الحسن الثاني، بالاعتذار عن التدخل، لكون الأمر يكتسي طابعا داخليا صرفا".
يعرض الكتاب قصة بودرقة من خروجه من المغرب إلى عودته متخفيا بهوية أخرى، ويقول "إثر مغادرتي المغرب يوم 22 مارس 1973، شاءت الأقدار أن يكون لي موعد مع واقع جديد، أصبحت فيه فاعلا وسط إعصار لم أحسب حسابه من قبل، حين وجدت نفسي، أتحمل وسطه، مسؤوليات ثقيلة، تتجاوز المشروع الذي كنت أنوي تنفيذه، صدر في خضم الأحداث، بيان لوزارة الداخلية، يعلن اعتقالي بمعية عمر دهكون، فقررت العودة إلى المغرب، بهوية أخرى، بعد اجتماع مع الفقيه البصري، يوم 24 مارس 1973، خاصة وأنني كنت قد قررت، في السابق، عدم البقاء في المنفى. كان هذا القرار نابعا مما كنت ألاحظه أثناء تنقلاتي خارج البلاد، في الجزائر أو ليبيا أو فرنسا أو بلجيكا، إذ كنت ألمس معاناة دفينة، لدى أغلبية المناضلين المنفيين، رغم أجواء الحرية الظاهرة في معيشهم اليومي".
يحاول كتاب "بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة" رصد الأحداث، من خلال نشر مجموعة من الوثائق، التي تسند وتعضد عديد الشهادات التي تلقاها بودرقة، مقرونة بما حافظت عليه ذاكرته من إضاءات لوقائع كان مشاركا فيها، لعل أهمها تلك المتعلقة بوضع حد للنزيف الذي كان سيدفع بمزيد من المناضلين إلى أعمدة الإعدام أو إلى المطاردات من أجل التصفيات، بعد فشل محاولة 23 مارس 1973.
يوميات نقيب أسير في سجون البوليساريو
أما الكتاب الثالث، فلا يقل أهمية عن سابقيه، خاصة وأنه يطبع لتجربة غير مسبوقة وغير مألوفة في الحياة الثقافية المغربية، إذ أن الكاتب هنا ليس سوى عسكري قضى ربع قرن رهن الأسر في سجون البوليساريو.
يروي النقيب علي نجاب، المنتمي لسلاح الجو المغربي، والذي تم احتجازه من طرف البوليساريو، تفاصيل حياة الأسر بعدما كان محكوما عليه بتحمل فظائع السجن، ووحشية سجانيه بإيعاز من النظام الجزائري.
فبعد مرور ما يقرب من 16 عاما على إطلاق سراحه، قرر النقيب نجاب أن يتقاسم مع الجمهور المغربي والعالمي معاناته، والتشتت الأسري الذي عانى منه، خلال 25 عاما، في معتقلات البوليساريو فوق التراب الجزائري.
"25 عاما في معتقلات تندوف" هو عنوان هذا المؤلف-السيرة الذاتية، الذي يحكي، بكثير من المرارة، ولكن أيضا بكثير من الدقة في استحضار الوقائع – الضروري بالنسبة لوثيقة تاريخية التي ستصبح بكل تأكيد مرجعا – رعب السجن وهمجية السجان. إنه مؤلف مكتوب أيضا ببراعة كاتب وقوة جندي متشبث بشكل عميق بوطنه.
وبين دفتي هذا الكتاب، الذي يقع في أكثر من 562 صفحة، يأخذ علي نجاب القارئ في رحلة يسرد خلالها تفاصيل حياة كانت تعد بمستقبل واعد. فبدءا بطفولته وخطواته الأولى في قبيلة آيت وراين، عند سفوح الأطلس، حتى انخراطه في سلاح الجو عام 1965، وتكويناته في المغرب وفرنسا والولايات المتحدة وإيران، يروي النقيب نجاب رحلاته وأيامه السعيدة.
فبعد انتقاله للاشتغال بالأقاليم الجنوبية كطيار حرب، وقائد كتيبة سرب طائرات "إف5" ورئيس المعدات العملياتية في قاعدة العيون، شكل الطيار، الذي كان في مهمة استطلاعية، هدفا لصاروخ للعدو بالقرب من السمارة، في 10 شتنبر 1978، مما أجبره على القفز من طائرته، ليقع في أيدي سجانيه.
هذا الحادث الجوي "شكل نقطة تحول حاسمة في حياتي وفي مسيرتي العسكرية"، يكتب نجاب، الذي يريد أن يجعل من كتابه "كتابا لجميع السجناء" من أمثاله، ونافذة لـ"رفقائه في المعاناة" التي ذاقوها، والمعاملات اللإنسانية التي تلقوها من جلاديهم، بما فيها تركهم دون علاج حتى يلقوا حتفهم أو بكل بساطة يعدمون رميا بالرصاص.
ويقدم المؤلف الذي ينقسم إلى واحد وعشرين فصلا، أحداثا مهمة منها على الخصوص مأسسة التعذيب داخل سجون البوليساريو بتندوف، وبوفاريك (شمال الجزائر)، واستخدام السجناء في برامج دعائية معادية للمغرب تبث على الراديو أو أمام الصحافة، بالإضافة إلى إجبار السجناء على القيام بالأعمال الشاقة.
وكتب المؤرخ والجامعي جامع بيضا في افتتاحية الكتاب أن المؤلف اختار "واجب الذاكرة"، مشيرا إلى أن النقيب علي نجاب عبر عن "امتعاضه"، خاصة حينما يقابل "شبابا يعرفون تاريخ برشلونة وريال مدريد، لكنهم لا يعرفون شيئا عن نزاع الصحراء ولا عن تاريخ المغرب".
وفي هذا السياق أبرز بيضا أن مؤلف "25 عاما في معتقلات تندوف" يندرج في إطار هذا الواجب المتمثل في إخبار الشباب بماضي وطنهم، من خلال سرد تثقيفي وغني بالمعلومات، والذي يتميز كذلك بالكشف عن "جوانب غير معروفة من الحرب في الصحراء".
من جهته، أشار هوبرت سيلان، محامي بهيئة المحامين في باريس، والذي كتب مقدمة لهذا الكتاب، إلى أن الضابط نجاب يحيل أيضا في مؤلفه إلى مفهوم الحرية، مبرزا أن السجين السابق أثبت لسجانيه "أنه لا يمكن سجن الحرية".
وأضاف أن "الرجل لم يستسلم (…) وظل فخورا بقوته الداخلية، وفكره السلس والصافي، الذي بتحرره الآن من المعاناة التي تحملها، تمكن من تقديم أسلوب كتابة جميل ومنظم".