إعلان حالة الطوارئ الصحية، في 19 من مارس المنصرم، يعني أن آلاف المواطنين أصبحوا بلا عمل، بعدما أغلقت المقاولات التي يشتغلون فيها أبوابها، وبعدما أصبح توفير لقمة العيش للذين يشتغلون في القطاع غير المهيكل أمرا بعيد المنال، لكن أزمة "كورونا"، التي يعيشها المغرب كغيره من بلدان العالم، أبانت عن تجذر قيم التضامن والتراحم في أوساط المغاربة.
مبادرات عفوية
سيف الدين الشراقي واحد من شبان مدينة الدار البيضاء، بدأ حملته التضامنية من مجموعة فيسبوكية أطلق عليها اسم "الايجابيون".
كان هم الشراقي، الذي ألف العمل الجمعوي، منشغلا بكيفية مساعدة الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة في ظل هذه الظروف، فاقترح على أصدقائه في المجموعة جمع مبلغ مالي وتوزيعه على الأسر المعوزة.
يقول المتحدث، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، إن مبادرتهم بدأت من مجموعة فيسبوكية، مشيرا إلى أن فكرة المبادرة تقوم على حصر الأسر التي تحتاج إلى المساعدة، ثم جمع مبلغ مالي من طرف أعضاء المجموعة يمكّن من سد الحاجات الضرورية لهذه الأسر من المواد الغذائية.
وأوضح أن الشبان القائمين على المبادرة يقومون بشراء المواد الغذائية من بعض المحلات التجارية ثم يوزعون بقسائم شراء لأرباب الأسر المحتاجة من أجل اقتناء حاجياتهم.
ويعتبر الشراقي أن هذه الطريقة سهلت المأمورية على أعضاء المجموعة؛ إذ أن شراء المواد وتوزيعها في هذه الظروف يظل محفوفا بالمخاطر، لذلك يتم منح الأشخاص المحتاجين قسائم شراء من فئة 300 درهم، كي يقومون هم بشراء ما يحتاجونه بأنفسهم.
ويشير إلى أن أعضاء المجموعة كونوا بنك معطيات يهم الأسر المحتاجة لتسهيل استهدافها كلما جمعوا مبلغا مقدرا من المال.
ودعا الشباب المغربي إلى الانخراط في كل الحملات التضامنية، خاصة في ظل هذا الوضع الذي يعيشه المغرب.
ورغم اعلان السلطات المغربية الحجر الصحي، إلا أن ذلك لم يمنع عددا من المواطنين إلى الخروج للبحث عن لقمة العيش، ففي مدينة بني ملال اعتادت العشرات من النساء التجمع، فجر كل صباح بأحد الأماكن، يسمى (كما في مجموعة من المناطق المغربية) "الموقف" وانتظار من يرغب في تشغيلهن ليوم واحد بثمن بخس ليوم واحد في تنظيف البيوت والعمارات.
يوم 28 من مارس المنصرم كان مختلفا ومشهودا في حياة هؤلاء النساء، حيث تجمعن كالعادة في "الموقف" من أجل البحث عن لقمة العيش، إلا أن قدوم الفاعلة الجمعوية نادية مرزاق سيغير برنامجهن اليومي.
طلبت مرزاق اختيار قرابة 20 امرأة من أجل تنظيف إحدى العمارات، واشترطت أن يكن من كبيرات السن، وكذلك كان، حيث حملت النساء في سيارات، قبل أن تفاجئهن بأجرة أسبوع لكل واحدة وتطلب منهن العودة إلى منازلهن تفاديا للإصابة بفيروس كورونا.
وتؤكد الفاعلة الجمعوية، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، أن الأموال التي وزعتها تبرع بها عدد من المحسنين في المدينة، الذين لا يريدون أن يظهروا في الصورة.
وتؤكد مرزاق أن خبرتها في العمل الجمعوي والتطوعي تمتد لسنوات، مشيرة إلى أن سمعتها الحسنة في المدينة جعلت "المحسنين" يضعون ثقتهم فيها، حيث تتكفل برعاية عدد من الأيتام والأسر المعوزة، كما قامت خلال هذه الأزمة بتوزيع أزيد من 360 قفة.
المغاربة لا ينسون ضيوفهم
خديجة فخري، طالبة في سلك الدكتوراه بجامعة السلطان مولاي سليمان بمدينة بني ملال، اختارت أن تركز اهتمامها على الطلبة الأجانب بجامعتها، خاصة منهم القادمون من إفريقيا جنوب الصحراء.
وتؤكد فخري أن هؤلاء الطلبة الباحثين هم أكثر الناس حاجة للتضامن في هذا الوقت العصيب، إذ أن عددا منهم تقطعت بهم السبل، وأصبحوا في حاجة إلى أبسط الأمور مثل الأنترنت، مشيرة إلى أنهم كانوا يستخدمون شبكة "الويفي" بالمقاهي، لكن إغلاق هذه الأخيرة أبوابها زاد من صعوبة مأموريتهم.
وتقول فخري إنها اختارت التكفل بعدد من الطلبة الأجانب، خاصة الباحثين منهم، مشيرة إلى أنها وجدت دعما من عدد من سكان المدينة، الذين يتبرعون بأموالهم من أجل العمل الذي تقوم به.
وتعتبر المتحدثة أن التضامن في هذا الوقت العصيب لا يشبه التضامن في الفترات العادية، مشيرة إلى أن الكثير من الأشخاص الذين لم يكونوا يمدون أيديهم لأحد أصبحوا يعيشون وضعا صعبا بعد فقدان عملهم، وهو ما يستدعي البحث عنهم أولا، بدل منح الأموال لمحترفي التسول، مضيفة أن كرامة هؤلاء لا تسمح لهم بسؤال الناس، مما يستدعي من المحسنين استهدافهم مباشرة.
وتوجهت فخري، عبر "تيلكيل عربي"، إلى الشباب المغربي للانخراط الكامل في توعية المجتمع بخطورة وباء كورونا، وكذا دعم كافة الحملات التضامنية.
الأنترنت في خدمة التضامن
استغل الشباب معرفتهم بالأدوات التكنولوجية لخدمة التضامن المجتمعي، وبعث روح قيم التراحم في صفوف فئات المجتمع، كما مكن استغلال الأنترنت من توسيع أشكال الدعم والتضامن لمن هم في حاجة إليه.
في هذا الصدد، أطلق المركز المغربي للإبداع والمقاولة الاجتماعية منصة إلكترونية مجانية لجمع التبرعات من المواطنين.
وتمنح المنصة، التي أطلق عليها اسم "ولوج"، جمعيات المجتمع المدني إمكانية عرض مشاريعها التي تحتاج إلى التمويل، كما تمكن المقاولات الصغيرة المتضررة من "وباء كورونا" من عرض منتجاتها للبيع، كما توفر المنصة مساحة أخرى للشباب المخترعين والمهندسين من أجل عرض مشاريعهم التي يمكن أن تساهم في مواجهة وباء كورونا من قبيل صناعة الكمامات وأجهزة التنفس.
ومنذ إنشائها، أطلقت المنصة حملة لتمويل شراء لوحات إلكترونية لـ24 تلميذا في دوار إسلان بإقليم تارودانت بمبلغ 19200 درهم لتمكينهم من متابعة دراستهم عن بعد.
ويؤكد هيتم العبوثي، المشرف على منصة "ولوج"، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، أن المنصة الإلكترونية التي أطلقها المركز المغربي للإبداع والمقاولة الاجتماعية منصة مجانية.
وأشار العبوثي أن الأشخاص الذين يتبرعون لفائدة الجمعيات يحصلون بالمقابل على بعض الهدايا الرمزية لتبرير عملية جمع الأموال.
ودعا العبوثي الشباب إلى الإقبال المكثف على كل المبادرات التي من شأنها تخفيف وطأة وباء كورونا على الشعب المغربي.
"أنا نتسخّر ليك"
مباشرة بعد إعلان السلطات المغربية فرض إجراءات الحجر الصحي، عرض عدد من الشباب في مختلف مدن المغرب خدمات إيصال البضائع والمشتريات إلى الأشخاص المسنين والمرضى حتى لا يضطروا لمغادرة منازلهم.
نجيب بوجدرة، واحد من هؤلاء الشباب النشيطين بمدينة سطات، التي قدم إليها من أجل إتمام دراسته الجامعية، عرض رقم هاتفه على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وطلب من أصدقائه تعميمه على من يحتاجون إلى المساعدة.
ويشرح نجيب بوجدرة، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، دوافع اختياره القيام بهذا العمل بالقول: "هذا ما أستطيع تقديمه لبلدي في هذا الظرف"، مشيرا إلى أنه أنشأ مجموعة على "واتساب"، تضم 7 شبان ينسقون في ما بينهم من أجل التكفل بشراء حاجيات الأشخاص المسنين والمرضى.
ويؤكد بوجدرة أنه يقوم بشكل يومي بإيصال المشتريات إلى الأشخاص الذين يتصلون به، مشيرا إلى أن أغلبهم يطلبون منه تقاضي مقابل خدمته، لكنه يرفض ذلك، مشددا على أن هذه الظرفية تحتاج مزيدا من التضامن.
وفي قرية أولاد موسى بسلا قرر سبعة من الشبان التكفل بإيصال البضائع والمشتريات للأشخاص المسنين والمرضى، وكذا مساعدة الأسر المعوزة.
ويؤكد محمد ايدير، الذي يعمل تقنيا في إحدى الشركات بسلا، أنه، رفقة باقي الشبان، قسموا قرية ولاد موسى، فيما بينهم، بحيث يتكلف كل واحد منهم بالحيز الذي يقطن فيه، مشيرا إلى أنهم يواصلون عملهم بشكل يومي لإنجاح قرار الحجر الصحي.
الأطباء يتبرعون
لا يكتفي الأطباء بالوقوف في الصفوف الأمامية لمواجهة "فيروس كورونا"، بل إن بعضهم أغلق عيادته، وبدأ في تقديم الاستشارة ويد العون للمواطنين مجانا.
هذا هو حال طبيبة الأسنان إيمان المساري، التي تدير صفحة على "فيسبوك"، أطلقت عليها اسم "مستعجلات طب الأسنان".
وتقول المساري، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، إن المبادرة التي أطلقتها، يشرف عليها 10 من أطباء الأسنان، يجيبون على اتصالات المواطنين الذين يعانون آلاما في الأسنان، ويقومون بتوجيههم، سواء من خلال وصف الأدوية لهم أو توجيههم نحو طبيب قريب منهم، إذا كان الأمر يتطلب تدخلا مباشرا من الطبيب.
وتشير طبيبة الأسنان إلى أنها رفقة باقي الأطباء لا يصفون الدواء للمرضى إلا بعد توجيه مجموعة من الأسئلة لهم بخصوص سنهم، وما إذا كانوا يعانون من أمراض مزمنة، ودرجة الألم الذي يحسون به، وإرسال صور الأسنان والأضراس عبر "فيسبوك"، كما يعاودون الاتصال بهم من أجل تتبع حالتهم.
وقبل إطلاق هذه المبادرة، كانت هذه الطبيبة سباقة إلى التبرع بالمعدات الوقائية لفائدة العاملين في المستشفيات العمومية، قبل أن يحذو حدوها باقي زملائها في طب الأسنان في انتظار انتهاء أزمة "كورونا" وعودتهم لعياداتهم المغلقة.
مبادرات المهاجرين
مباشرة بعد اعلان المغرب فتح باب التبرعات لفائدة صندوق مواجهة جائحة "كورونا"، أعلن عدد من المهاجرين المغاربة انخراطهم في حملة التبرعات التي ذهب بعضها للصندوق، وأخرى تم توجيهها للأسر المعوزة.
رشيد بريمة، واحد من الشباب المغاربة بمقاطعة مانيتوبا الكندية، أطلق حملة تحت شعار "الوفاء للوطن".
ويقول بريمة، في اتصال مع "تيلكيل عربي"، إن الحملة التي أطلقها، رفقة شباب آخرين، كانت تهدف إلى التكفل بـ50 أسرة في المغرب، مشيرا إلى أنها حققت أهدافها.
وأضاف "بمجرد ما أعلنت عن الحملة انخرط فيها عدد من أبناء الجالية، كما انخرط فيها أبناؤهم الذين ولدوا في كندا"، مشيرا إلى أن الهدف من الحملة هو ربط المهاجرين بالوطن وبأهلهم في المغرب.
مغرب عصي على الفردانية
يرى مصطفى بنزروالة، الباحث في علم الاجتماع، أنه "لا يمكن تفسير أي فعل اجتماعي، خارج النسق الذي أنتجه"، مضيفا أن هذه القاعدة في التحليل الاجتماعي تصدق اليوم أكثر من أي وقت مضى على الفعل التضامني والتطوعي المدني الذي يشهده المجتمع المغربي اليوم، تفاعلا مع الأوضاع التي خلفتها الإجراءات الاحترازية الحكومية لمواجهة فيروس كوفيد19.
ولفت بنزروالة، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، إلى أن "ما يمكن الانطلاق منه في رصد وتحليل السلوك التضامني في المجتمع المغربي، هو أن هذا الأخير، كغيره من المجتمعات التي يطغى عليها طابع المحافظة الاجتماعية والثقافية، لا زال عصيا على الاختراق من طرف قيم الفردانية، والنزعات الذاتية، والخلاص الذاتي، وذلك بفعل هيمنة المؤسسات المؤطرة ذات الطابع الاجتماعي (الجماعة، القبيلة، العشيرة...) ، معتبرا أن ذلك ما يجعلنا أمام مجتمع يسود فيه التضامن العضوي، بتعبير إيميل دوركهايم".
وتابع "هذه الميزة الإيجابية التي تتلخص في حملات إحسانية توعوية وتحسيسية يمكن أن نقف، من خلالها، على العديد من الملاحظات التي تساعدنا في فهم قيم التضامن مغربيا، والتي يمكن أن نوجزها في ثلاث ملاحظات أساسية".
الملاحظة الأولى تتمثل، حسبه، في أن الفعل التضامني والتطوعي، مازال يعيش على إيقاع الموسمية، إذ تتكرر الحملات التضامنية والتطوعية في لحظات محددة (شهر رمضان، الأعياد والمناسبات الدينية، الحوادث والكوارث، موسم الشتاء ...) الشيء الذي يغيب معه طابع الاستدامة والفاعلية.
الملاحظة الثانية، وهي أن هذا الفعل لم يرق بعد إلى طابع المأسسة والاحتضان التنظيمي، ويبقى رهين مبادرات فردية أو جماعية، بعيدة عن الروابط التنظيمية، سواء الجمعوية أو السياسية، بمعنى أن الفعل التطوعي، خاصة في ظل وباء كرونا، أعاد إلى الواجهة نقاش تحرير الفعل المدني من ربقة السياسي، وهو ما يتجسد في تشكيلات تنظيمية بديلة، مثل روابط الأحياء وتنسيقيات المتطوعين...
أما الملاحظة الثالثة، فتهم الصعوبات التي تعترض الفعل التطوعي في المغرب خاصة أنه يواجه مشاكل قانونية، بعد تأخر سن قانون التماس الإحسان العمومي، وما يترتب عن ذلك من حصر لفضاءات التطوع ويجعله عرضة في كثير من الأحيان للمساءلة القانونية، و"في أحيان أخرى إلى الاستغلال والاستثمار السياسوي الضيق"، على حد تعبيره.