لماذا تحدث الملك عن الفوارق الاجتماعية؟

المصطفى أزوكاح

عاد الملك محمد السادس، في خطاب العرش، مساء الاثنين 29 يوليوز، للحديث عن النموذج التنموي الجديد، الذي يفترض أن يتجاوز الحدود التي أبان عنها النموذج الحالي، بما يساعد على معالجة الفوارق الاجتماعية والمجالية، التي ما فتئت تتسع في الأعوام الأخيرة.

لجنة للنموذج التنموي وتعديل حكومي

وقد كشف الملك محمد السادس، في خطابه العشرين للعرش، عن إحداث لجنة من أجل بلورة النموذج التنموي الجديد، الذي كان دعا له في أكتوبر عام 2017، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية، مؤكدا أنه سيتم تنصيب أعضائها في الدخول المقبل.

وقال الملك محمد السادس إن هذه اللجنة "لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن"، بعد أن أكد أن  تركيبتها ستشمل "مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا".

وتحدث الملك عن ضرورة "ضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة"، وكلف رئيس الحكومة بأن يرفع  إليه في أفق الدخول المقبل، "مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية، الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق".

وأوضح أنه هذا "لا يعني أن الحكومة الحالية والمرافق العمومية، لا تتوفر على بعض الكفاءات. ولكننا نريد أن نوفر أسباب النجاح لهذه المرحلة الجديدة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقاء بمستوى العمل، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي نريده".

فشل السياسات "الصديقة" للفقراء

كان الاقتصادي المغربي، نور الدين العوفي قد كتب، قبل خطاب العرش الأخير، لكن بعد حديث المستشار الملكي عمر عزيمان عن الفوارق الاجتماعية: "من سمات اقتصاد الحرمان استمرار العجز الاجتماعي بالرغم من الجهود المبذولة على مستوى الاستثمار (الأوراش الكبرى، البرامج القطاعية المهيكلة، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية). ويتساءل "لماذا فشلت السياسات "الصديقة" للفقراء (بحسب المؤسسات المالية الدولية) في محاربة الفقر والتهميش والإقصاء؟ لماذا لا تستفيد سوى الأقلية من السياسات الماكرواقتصادية؟ لماذا لا يتم "جريان" النمو من الأعلى نحو الأسفل اجتماعيا، ومن المراكز إلى الأطراف مجاليا؟".

جاءت تلك التساؤلات من قبل الاقتصادي المغربي، الذي سبق له أن ألف كتابا بمعية الاقتصادي سعيد حنشان، حول "الفوارق الحقيقية في المغرب"، في تدوينة له الأحد، في سياق تصريح مستشار الملك محمد السادس، عمر عزيمان، الذي قال في حوار مع فرانس برس، الأحد، عندما سئل حول الأولويات الحالية، "اليوم، أصبح تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية في صدارة الأولويات. إنها ورشة ضخمة يستوجب إنجازها صياغة نموذج تنموي جديد يكون أكثر حرصا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية. كما يستوجب نهج سياسة مجالية جديدة ستساهم فيها الجهوية المتقدمة بقوة".

وفي التقرير السنوي الذي رفعه والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، حول أداء الاقتصاد، الاثنين، أكد  على أن "الإقصاء من سوء الشغل واستمرار مستوى عال من التفاوتات الاجتماعية، التي تزيد مواقع التواصل الاجتماعي من حدتها من منظور الساكنة، يفاقم الإحساس بالتهميش ويضعف التماسك الاجتماعي".

وعاد الملك محمد السادس، في خطاب العرش الاثنين، إلى التذكير بما سبق له أن عبر عنه في افتتاح الدورة البرلمانية لأكتوبر 2017، حيث دعا إلى بلورة نموذج اقتصادي جديد، في ظل ملاحظته عدم مساهمة النموذج الحالي في تقليص الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي ملاحظة تدعمها العديد من التقارير الدولية والمحلية، التي تلتقي في التشديد على هشاشة النمو الاقتصادي الذي يحوم حول 3 في المائة.

ماذا يقول التشخيص؟

في تقرير لمنظمة "أوكسفام" حول الفوارق، صادر في العام الماضي، لاحظت أن ثلاثة مليارديرات الأكثر غنى بالمغرب، يحوزون 4,5 مليار دولار، حيث أن نمو ثرواتهم في عام واحد، يمثل استهلاك 375 ألف مغربي من الأكثر فقرا في عام واحد.

وتشير إلى أن المغرب الذي يعرف أعلى مستوى للفوارق في شمال إفريقيا، يتمتع فيه إلى أن 10 في المائة من الأكثر ثراء، بمستوى معيشة يتجاوز في المتوسط 12 مرة، مستوى معيشة 10 في المائة من الأكثر فقراء، وهو فارق لم يتغير منذ 1990.

وسجل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في تقرير له، أن الفقر النقدي انتقل من 15,3 في المائة في 2000 إلى 4,8 في المائة، غير أنه يلاحظ أن  مستوى الأشخاص الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد أو الهشاشة، يبقى مرتفعا، مؤكدا أن الفوارق تصل إلى مستوى مرتفع مقارنة بالمتوسط في البلدان المماثلة.

ويحيل التقرير على بحث للمندوبية السامية للتخطيط يعود لعام 2014، حيث يصرح 64 في المائة من المستجوبين، بارتفاع الفوارق، مقابل 7,8 في المائة، يعتقدون بتراجعها، كي يشير تقرير المجلس إلى أن هذه العناصر، تكشف عن  قصور المحيط الاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي، عن الاستجابة لانتظارات فئات عريضة من الساكنة وتحسين مستوى معيشتها.

ويتصور المجلس الاقتصادي والاجتماعي، في تقريره،  أن الفوارق على مستوى المداخيل والنفقات، مرتبطة، بشكل خاصة، بالفوارق على مستوى الحصول على الشغل والولوج لفرص الأعمال، وهو ما تؤكده تقارير المندوبية السامية للتخطيط، فرغم استقرار نسبة البطالة في حدود 10 في المائة، غير أنه يتجلى أن الشباب هم الأكثر معاناة من تلك الظاهرة، حيث تصل إلى 26,5 في المائة بينهم، وهو معدل يتجاوز40 في المائة وسط شباب المدن.

ويعتبر المجلس أن النظام االتربوي الحالي يعوق الحركية الاجتماعية والتطلع للإفلات من الفقر والإقصاء الاجتماعي، مشيرا إلى أن أكثر من 55 في المائة من الفقر المتعدد الأبعاد، يجد تفسيره في العجز المسجل في تعليم البالغين وعدم تمدرس الأطفال، ويتجلى الطابع الذي يكرس الفوارق، في ذلك البون بين المدرسة الخاصة والعمومية، على اعتبار أن العجز الذي يعاني منه القطاع التربوي العمومي، يتم على حساب الطبقات الفقيرة، التي تتردد على المدرسة العمومية، التي توفر عرضا ضعيفا من الفرص للحركية الاجتماعية الصاعدة.

ويسجل  أن الفوارق على مستوى الولوج إلى العلاجات ذات الجودة، تبقى مهمة، رغم ارتفاع المؤشرات المرتبطة بالأمل في الحياة، والولادة وتقليص الوفيات أثناء الولادة، زد على ذلك أن العرض من العلاجات الصحية، يبقى متركزا في على مستوى بعض الجهات، حيث أن 22 في المائة من المهنيين العموميين وحوالي 50 في المائة من العرض الخاص، يتركز في جهات الدار البيضاء-سطات والرباط- سلا- القنيطرة.

من أجل الإفلات من فخ الفوارق

وقد دأبت التقارير الدولية والمحلية على الدعوة إلى معالجة الفوارق الاجتماعية، في سياق متسم بحرص المواطنين على التعبير عن عدم رضاهم عن الحرمان من الحقوق الأساسية ذات الصلة بالتعليم والصحة، خاصة في ظل حديث العديد من الخبراء عن التوجه نحو انقسام المجتمع إلى فقراء وأثرياء مع تراجع حضور الطبقة المتوسطة، هذا في الوقت الذي تفضي الفوارق إلى ظهور احتجاجات تركز على العدالة الاجتماعية.

وقد سجل تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن المواطنين ترسخ لديهم الوعي بحقوقهم ولا يتوانون عن التعبير عن حاجياتهم وانتظاراتهم، هذا ما يدفع تلك المؤسسة الدستورية، إلى التأكيد على ضرورة تدعيم العدالة الاجتماعية والمساءلة والحكامة ومحاربة الرشوة وكل أشكال الشطط، مع العمل على اتخاذ مبادرات من أجل تصحيح الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والمجالية.

ويعتبر أحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، أن النمو الاقتصادي يبقى ضعيفا بالمغرب، مرتهنا للتساقطات المطرية، وضعيفا من حيث المحتوى التكنولوجي والقدرة على التصدير، وقاصرا عن خلق فرص عمل مؤهلة، وغير مساهم كفاية في خلق فرص العمل المؤهلة، وغير مساعد على تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، ما يدفعه إلى الدعوة إلى تسريع الإصلاحات وملاءمة الإصلاحات الهيكيلة.

وتوصي أوكسفام، من جهتها، بوضع حد لاقتصاد الريع والامتيازات والزبونية، وتشجيع الحكامة الجيدة في مجال السياسة الاقتصادية والاجتماعية على الصعيد المحلي والجهوي والوطني، عبر المحاسبة والشفافية ومحاربة الإفلات من العقاب، وتشدد على ضمان تفعيل جيد للبرامج الحكومية في مجال تطوير النموذج الاقتصادي وتشجيع التشغيل والتنمية المستدامة، ودعم التنمية البشرية.

وتشدد "أوكسفام" على دعم الانسجام الاجتماعي والمجالي، عبر تدابير ملموسة في مجالات التعليم والتكوين والصحة والشغل، موصية بإرساء نوع من العدالة الجبائية، بما يفضي إلى وفاء الأكثر غنى بحصة عادلة من الضريبة، ومحاربة التهرب الجبائي وزيادة الإنفاق العمومي على الخدمات العمومية.

ولم تغب الفوارق عن انشغالات صندوق النقد الدولي، الذي فاجأ المراقبين المطلعين على أدبياته، التي تركز على التوازنات الماكرواقتصادية، عندما أوصى المغرب بتقليص الفوارق الاجتماعية، غير أن الاقتصادي إدريس الفينا يشير إلى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عندما يتحدثان عن الفوارق، لا يراجعان أدبياتهما، بل يستندان على بيانات رقمية تدفع إلى دق ناقوس الخطر، ثم إن المؤسستين تلاحظان أن العالم يتجه نحو نوع من الرأسمالية المركزة، التي ينتفي فيه تقاسم ثمار العمل.

ويؤكد الفينا على أن توصيات صندوق النقد الدولي ساهمت  في توسيع الفوارق في بلد مثل المغرب، ما دام يلح على التوازنات الماكرواقتصادية، غير آبه بالتوازنات الاجتماعية، وهو  تؤشر عليه الإصلاحات الكبرى التي ينصح بها المملكة.

ويستحضر نور الدين العوفي، عند الحديث عن الفوارق، مساهمات الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، الذي حصل على جائزة نوبل عن عمله حول اقتصاد الرفاه، والذي ساهم في تطوير نظرية العدالة وإغنائها باعتبار أن مستوى القدرات التي يتوفر عليها الأفراد حاسم في "اختيار نمط الحياة الذي يرومون".

ويشير العوفي إلى أن أهمية مفهوم القدرات تكمن في التنزيل الفعلي للحقوق الشكلية، المتمثلة في الحق في التعليم والصحة والسكن والشغل، وتحقيقها على أرض الواقع، لتتحول إلى خدمات فعلية يستفيد منها الجميع بنفس الشروط والمواصفات في المدرسة، والمستشفى، وسوق الشغل، والولوج إلى المناصب، إلى غير ذلك.

ويشدد على أنه "في وضعية الحرمان الشامل، وضعف مؤشرات التنمية البشرية، يشكل شرط التمكين من القدرات، بالاستثمار فيها، قاعدة لتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص، ولتحقيق العدل، ولإنجاز الأفراد لنمط العيش الذي يصبون إليه".

ويلاحظ أن الحكومة "تعتمد، في الأغلب، على المؤشر المالي، أي على مستوى الدخل، في صياغة السياسات الاجتماعية، بينما تقوم الفوارق على عجز أصلي، متراكم ومتفاقم، في الضروريات من القدرات، من جهة، وعلى الاختلال الحاصل في شروط التحقيق، والتفعيل، والإنجاز (نفس المؤهلات والكفاءات لا تقابلها نفس الفرص) من جهة أخرى".

ويؤكد على أن عملية "التقليص من الفوارق الاجتماعية تتطلب، تعديل الأولويات بالاستثمار في الضروري من التنمية بصفة عامة، ومنه الاستثمار في القدرات، والارتقاء بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى مستوى الساق الثانية التي تقف عليها استراتيجية التنمية الشاملة (يشكل الاستثمار في البنيات الثقيلة والمادية الساق الأخرى)، أي بالمزاوجة بين الكفاءة الاقتصادية القائمة على الاستثمار المنتج، وبين العدالة الاجتماعية التي تتطلب التمكين من القدرات".

 المندوب السامي في التخطيط، أحمد الحليمي، الذي ما فتئ يعبر عن عدم رضاه عن السياسة الاقتصادية التي تقودها الحكومة بسبب ضعف النمو والتشغيل واتساع الفوارق، يؤكد أن كل نموذج اقتصادي جديد، يجب أن يكون محكوما برؤية مجتمعية، محيلا على إخفاقات الثمانينات من القرن الماضي، حيث اعتبر أن المغرب انخرط في تلك الفترة في نوع من الليبرالية الاقتصادية، التي أملتها رغبة بعض الأشخاص في الإثراء، ما أسقط المغرب في برنامج التقويم الهيكلي في التسعينات، مشيرا إلى أنه منذ 2000، عرف الاقتصاد انطلاقة جديدة إلى غاية أزمة 2008، معتبرا  أنه يجب اليوم الدخول للعقد الجديد بنفس جديد، ما يقتضي في تصوره بلورة ميثاق وطني صريح يربط الحاكمين والمحكومين، كي يعرف المغرب إلى أين يسير.