يذكّرنا باديو، إن "الفلسفة لا تكتب للراحة، بل للاضطراب، لا لإعادة التأكيد، بل لإحداث القطائع." فهل نحن مستعدون لمواجهة الحقيقة حين تظهر لا كمعطى، بل كمجال مفتوح للفعل؟
المغرب بين الجدل والصيرورة التاريخية
لا تُبنى الأمم على المعطيات الثابتة، بل على التناقضات التي تحكم حركتها، على صراع الأفكار، على التوتر المستمر بين السلطة والمجتمع، بين إرادة الهيمنة ورغبة التحرر، بين الاستمرارية والتجاوز. فهل تُدرك الأمة ذاتها عندما تنغلق داخل أنظمتها القائمة، أم عندما تُخضع هذه الأنظمة لمساءلة دائمة؟ هل الهوية هي ما يفرضه الماضي كحقيقة نهائية، أم ما ينفتح عليه الحاضر كإمكانية غير مكتملة؟
المغرب، كأي كيان تاريخي، ليس مجرد مساحة جغرافية تحددها الحدود، بل فضاء ديناميكي حيث تتداخل البنية السياسية مع الوعي الجماعي، حيث السلطة ليست فقط أجهزة ومؤسسات، بل شبكة من الخطابات والعلاقات، وحيث المجتمع ليس مجرد جمهور منفعل، بل طاقة قادرة على إعادة تعريف نفسها حين تنضج شروط ذلك. إن فهم المغرب لا يكون من خلال الوقائع السطحية وحدها، بل من خلال جدليته العميقة، من خلال العلاقة المتوترة بين بنيته السياسية والاقتصادية، وبين تحولات مجتمعه التي لا تتوقف عن مراكمة نقيضها.
لسنوات، كان الخطاب السائد يتحدث عن "استثناء مغربي"، عن قدرة البلاد على الحفاظ على توازناتها وسط العواصف الإقليمية، عن المرونة السياسية التي تمكّن النظام من امتصاص الأزمات. لكن هل هناك فعلًا أنظمة تعيش خارج منطق التاريخ؟ هل يمكن لأي دولة أن تظل في حالة ثبات بينما تتحرك المجتمعات من تحتها وفق إيقاعات يصعب ضبطها؟
إن كل بنية تحمل داخلها شروط اهتزازها، وكل استقرار يخفي تحته صراعات مكبوتة، تنتظر اللحظة التي تتحول فيها التناقضات الكامنة إلى قوى تدفع بالتاريخ نحو نقطة انعطاف جديدة. فالسؤال اليوم ليس ما إذا كانت هناك أزمة، بل ما إذا كانت هذه الأزمة جزءًا من دورة لإعادة إنتاج نفس التوازنات القديمة، أم أنها تنذر بتجاوز غير مسبوق، بلحظة كسر يعاد فيها تشكيل العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين الاقتصاد والسياسة، بين الوعي الفردي والمصير الجماعي.
حين تعجز السلطة عن إنتاج مشروع جديد يُقنع، وحين تصبح أدوات التحكم غير قادرة على ضبط الحراك الاجتماعي، لا تعود الأزمة مجرد اختلالات يمكن إصلاحها بتعديلات تقنية، بل تتحول إلى اختبار لإمكانات مستقبل مختلف. وهنا، لا يكون التغيير مسألة قرار سياسي فقط، بل نتيجة صيرورة تاريخية، حيث التناقضات التي ظلت تتراكم تجد في لحظة ما منفذًا لها، حيث يتحول ما كان يبدو مستحيلًا بالأمس إلى واقع قيد التشكل.
ليست هذه التأملات سردًا محايدًا للأحداث، بل هي محاولة لفهم منطق الصيرورة التي تحكم التحولات العميقة في المغرب، حيث تتشابك السياسة بالاقتصاد، وتتداخل أزمة الهوية مع أزمة المواطنة، وحيث لا يمكن فهم الواقع دون الغوص في بنيته العميقة، في الأسئلة المؤجلة التي تظل حاضرة رغم محاولات تجاوزها.
إن كل نظام، مهما بدا متماسكًا، يحمل في داخله تناقضاته الخاصة، وكل استقرار ليس إلا هدنة مؤقتة داخل صراع أوسع بين منطق الهيمنة وإرادة التغيير. لا تسعى هذه التأملات إلى تقديم إجابات جاهزة، بل إلى تفكيك الآليات التي تعيد إنتاج السلطة، وتحليل الشروخ التي قد تتيح بروز بدائل جديدة، لأن التاريخ لا يسير بخط مستقيم، بل عبر قفزات غير متوقعة، ولأن كل سلطة، مهما بلغت من القوة، تحتوي في بنيتها إمكانية اهتزازها القادم.
فلا شيء خالد، ولا استقرار نهائي، لأن المجتمعات تحمل في داخلها احتمالات تحولها، ولأن الجمود ليس إلا مظهرًا مؤقتًا لحركة تتراكم في العمق.
التاريخ، في النهاية، لا يُكتب في المكاتب المغلقة وحدها، ولا خلف اسوار القصور، بل في الشوارع، في المصانع وفي العقول، تلك العقول التي ترفض الامتثال، وفي اللحظات التي تتحول فيها الأزمات من حالة توازن هش إلى فرصة لإعادة تشكيل الممكن. المغرب ليس كيانًا مكتملًا، بل سيرورة لم تُحسم بعد، حيث كل لحظة تحمل السؤال الحتمي الذي لم يفلت منه أي نظام عبر التاريخ: هل يمكنه الاستمرار كما هو، أم أن التغيير قد بدأ بالفعل، حتى وإن ظل غير مرئي إلى حين؟