ورطت تونس في معاداة حلفاء تقليديين لها لم تقطع "دولة الياسمين" لعقود حبل الود تجاهها مهما تغيرت هوية النظام.. تنزل بكل "ثقل حقائب العملة الخضراء" في ليبيا كلما لاحت بوادر الصلح بين فرقاء البلد.. تناور بالتهديد تجاه منع موريتانيا من المساهمة في استقرار شمال إفريقيا (سنعود إلى هذه النقطة بالتفاصيل. كيف؟ ولماذا؟).. بل ذهبت حد محاولة تسميم العلاقات بين المغرب ومصر بلعب ورقة تقارب وطيد مرتقب يجمع إثيوبيا بالمملكة.
وغير ذلك كثير!
شهر نونبر من العام الماضي، شاركت في لقاء احتضنه مقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، نظمته وكالة التنمية الإفريقية. لقاء حضره مسؤولون وخبراء ومستثمرون وصحافيون من كل دول قارتنا ومن الخارج.
تحدثت مع العشرات منهم، جعلت من النقاش معهم فرصة لمعرفة آرائهم ومواقفهم بتجرد تجاه ما تقترفه الجزائر في إفريقيا، وما يبادر إليه المغرب.
ما يجب حسمه، أنه كان عند العارفين بمستقبل القارة، وأين تكمن مصالحها، أن المبادرة الملكية الأطلسية ستكون حجر زاوية لطفرة تنموية استثنائية، ستقفز بالمنطقة ككل إلى مستويات جد متقدمة، خاصة تنزيل الاستثمارات الخاصة بالبنى التحتية المرتبطة بالربط الطرقي والسككي... إحياء نقط عبور إفريقية وإنشاء أخرى، يمكن أن تمتد من سواحل البحر الأحمر وصولا إلى موانئ الواجهة الأطلسية الإفريقية.
ويشدد كل من تبادلت معهم النقاش على أن وقع هذه المبادرة أكثر قوة من مبادرات سياسية أخرى تهم الجغرافيا.
بعد تجميع كل ما استمعت إليه، وبالنظر إلى السياق الذي استجد حينها، ويتعلق بالاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، تصاعد مواقف الدعم المعلن والصريح والشامل لمقترح الحكم الذاتي، وأيضا عودة ترامب للجلوس على كرسي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية... مع مؤشرات تغيير في موقف بريطانيا والدول التابعة للتاج البريطاني.
بعد كل ما سبق، تساءلت عبر مقال حمل عنوان "حجر في حذاء استقرار إفريقيا" نشر يوم 11 نونبر 2024:
"هل يحتاج العالم إلى بؤرة توتر عسكرية أخرى؟ وهل تقوى إفريقيا على تحمل زعزعة استقرار رقعة جغرافية إضافية؟"
ثم خلصت في المقال ذاته إلى أن "الجواب الأكيد عند العقلاء ومن تهمهم مصالح الشعوب؛ هو: لا.
لكن عند من يحكم الأشقاء الجزائريين بقضبة الحديد والنار؛ هو: نعم!"
وأضفت: "ما يهم جنرالات الجزائر، اليوم، أكثر من أي شيء آخر؛ هو تحقيق ثلاثة أهداف مرحلية، بسرعة مفرطة، يغذيها الكثير من الشعور بالإحباط وتجرع مرارة الانتكاسات المتتالية".
ومما جاء في المقال عن الأهداف الثلاثة المرحلية، قلت حول الهدف الثاني:
"ثانيا: أمام هول الموقف الفرنسي الجديد من سيادة المغرب على صحرائه، ترى الجزائر أنها لا تملك أي بديل غير التلويح بجر المنطقة إلى نزاع عسكري جديد. يعرف قاطنو قصر المرادية أن مد الاعتراف بمغربية الصحراء لن يقف عند أعتاب قصر الإيليزي، بل هناك قصور دول أخرى باشرت التسخينات الدبلوماسية والسياسية، وحتى الاقتصادية، لحسم موقفها من النزاع المفتعل لصالح المغرب، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض".
ماذا وقع؟
ها نحن نعيش اليوم على أرض الواقع، جر الجزائر لإفريقيا نحو بؤرة توتر جديدة، باستهداف مالي ومعها النيحر وبوركينا فاسو.
ما وقع، لا يمكن وصفه سوى بتهور جديد من عساكر الجارة الشرقية، بوهم أنهم يناورون بذكاء لاستمرار فرض أطروحات الانفصال وتفتيت الدول، من خلال إشاعة واقع هم وحدهم مقتنعون به، وهو أنهم "محرك ضمان الاستقرار الأمني والعسكري من عدمه، بمنطقة شمال إفريقيا وساحلها الغربي".
والحقيقة أن تهورهم جعل منطقة كاملة تعيش على وقع حظر طيران، وكأننا ضمن نطاق يتخبط في حرب عسكرية مباشرة.
الحقيقة أنهم يُسقِطون، كما هم دائما، أن الضامن عند شعوب إفريقيا، اليوم ومستقبلا وقبل سنوات، هو من يدفع بالتنمية ومشاركة الثروات وفتح آفق الانفتاح على العالم وجعل القارة على كلمة واحدة. من عنده القناعة التي تغذيها مشاريع الواقع قناعة أنه ليس بالبترول والغاز فقط يمكن ضمان العيش الكريم للأفارقة. لا البترول يسكت الجوع ولا الغاز يمكن أن يعوض الماء. ولا بتحالفهما معا تُخرس أصوات بنادق الإرهاب والانفصال، أو يُضمن استمرار استغلالها.
هذه القناعات لخصها الملك محمد السادس في خطاب عودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي يوم 17 يناير 2017، بالقول: "المملكة المغربية تسعى أن تكون الريادة للقارة الإفريقية".
في ماذا تطمع الجزائر بإشعال بؤرة توتر جديدة بالمنطقة؟ وكيف؟
قلت في مقدمة هذا المقال إنها تستهدف موريتانيا بالتهديد، نعم أعتقد أن الأمر كذلك.
نعم هذا هو الهدف الرئيسي مرحليا عند جنرالات الجارة الشرقية.
كيف؟
أعتقد أن الأزمة التي أشعلتها اليوم مع مالي وحلفائها، ظاهرها يستهدف هذه الدول، لكن عمقها هو جعل الجارة الجنوبية موريتانيا في حالة الشك الدائم والخوف على سلامة حدودها.
لماذا؟
لأن أي فتيل يشتعل هناك على الحدود بين مالي والجزائر يمكن أن تمتد شرارته إلى الحدود المختلفة عند موريتانيا.
إذن، يتأكد أنه أمام هذه الأوضاع، يجب أن يسلّم العالم، وقبلهم الأفارقة، بأن من يحكمون الجزائر بقبضة الحديد والنار حولوا سياسة البلد إلى ما يشبه فيروسا متحورا ومستجدا معا.
"متحور جزائري مستجد" تصاب به الدول والمناطق التي تنتمي إليها، تكون أخطر مراحله هي "مرحلة الكمون". بدون أعراض الإصابة بعدواه إلى أن يحقق شروط الاستيطان وإصابة البدن بالداء الذي يحتاج أحيانا لاستئصال أحد أطرافه أو أعضائه، بغرض تحقيق الشفاء التام وتجنب خطر سكتة الجسد ككل.