في الأجزاء السابقة من هذا التحقيق، توقفنا عند الفوز الذي حققه البجيدي في انتخابات 2015، وكيف أعطاه الأغلبية المطلقة لتنفيذ برنامجه في المدن، وأبرز الانتقادات التي توجه له في تدبير شؤون أكادير من قبل معارضيه، وغرقه وسط أزمة مالية في طنجة، وديون ثقيلة في فاس، واليوم، نقف عند تجربة "بيجيدي" في تدبير العاصمة الاقتصادية للمغرب، لنصل إلى خلاصة شاملة عن لمسة "بيجيدي" في تدبير المدن الكبرى.
في "الميتروبول" من الصعب جدا العثور على صوت معارض في مجلس المدينة، وحتى حزب الاتحاد الدستوري، الذي كان يسير المدينة منذ 2003 من خلال محمد ساجد، رفض قيادي كبير فيه الحديث بوجه مكشوف واقترح "الأوف" على "تيل كيل"، لكن في المقابل، ظهرت داخل حزب العدالة والتنمية أصوات، تعبر، بمجرد مرور سنتين، عن تذمرها من الحصيلة.
وأبرز تلك الأسماء عبد اللطيف الناصري، النائب البرلماني عن دائرة عين الشق وعضو المجلس المدينة، الذي عدد في تدوينة في خامس شتنبر الماضي، خمس نقط سلبية تعتري التدبير، ودعا إلى وقفة للتقييم الموضوعي "بكل جرأة وتجرد" لاستدراكها.
وكانت النقطة الخامسة أقسى الأحكام التي أصدرها عضو مجلس المدينة، إذ قال فيها إن إخوانه في المكتب المسير لجماعة البيضاء "يشتغلون دون برامج واستراتيجيات عمل واضحة ومحددة سلفا تستحضر أولويات المناطق وحاجياتها الأساسية، ويستغرقون، بدل ذلك، في التدبير اليومي البسيط"، في ظل "ضعف التتبع والتأطير المؤسساتي للتجربة من قبل هيآت الحزب المخولة"، كما أكد في ملاحظة أخرى "غياب الكفاءة والتجربة لدى بعض المشرفين على تدبير ملفات مهمة وحيوية مع تراكم وتعدد مسؤولياتهم، والنتيجة الحتمية ضعف المردودية".
في المقابل، يظهر عبد الصمد حيكر، الكاتب الجهوي لحزب العدالة والتنمية بالبيضاء، والموصوف أنه العمدة الفعلي بسبب حضوره الطاغي مقارنة بالرئيس عبد العزيز العماري، ثقة كبيرة في النفس وهو يقدم لـ"تيل كيل" حصيلة سنتين، معترفا بحقيقة وجود مشاريع كبرى تقررت من قبل المكتب السابق برئاسة محمد ساجد، الأمين العام للاتحاد الدستوري، والذي كان الحزب ممثلا فيه بالإسلامي مصطفى الحيا، نائبا خامسا للعمدة، ويجري استكمالها اليوم.
وقال حيكر: "في البيضاء نحن نشتغل، بشكل متواز، في مسارين، الأول يتعلق بتوفير كافة المقومات لتكون البيضاء، العاصمة "الميتربولوية" والقطب المالي الدولي المتنافس مع العواصم العالمية وقاطرة الاقتصاد الوطني، من خلال مشاريع كبرى، منها المفتوحة منذ الولاية السابقة ونعمل على استكمالها، والثاني عمل حثيث للنهوض بخدمات القرب، إذ لا نغفل، ونحن نسعى إلى أن تكون البيضاء قطبا دوليا، إنجاز مشاريع وخدمات موجهة لعموم السكان".
ويقول النائب الأول لعمدة المدينة، حول مشاريع تأهيل البيضاء لتكون قطبا دوليا ومركزا ماليا رائدا في إفريقيا، سيما منذ إعطاء انطلاقة إحداث الحي المالي للدار البيضاء في 2010، إنها تتجسد في "اسثمارات كبرى في النقل الحضري، من قبيل أشغال الخطين الثاني والثالث للطرامواي، والشروع في إعداد دفتر تحملات بمواصفات دولية للحفل عبر الحافلات في انتظار نهاية العقدة مع شركة نقل المدينة (مدينة-بيس)، ومشاريع لممرات تحت أرضية، وإعادة تأهيل حديقة الحيوانات عين السبع، وتهيئة الكورنيش، وورش المسرح الكبير".
ويشير المتحدث أيضا إلى "الورش الأهم كثيرا بالنسبة إلى السكان والسياح، ممثلا في مشروع التحول الرقمي لتحويل البيضاء إلى مدينة ذكية، بإعداد مخطط مديري، من بين ما تحقق فيه جعل جميع مساطر التعمير رقمية والقطع مع استعمال الورق، ما يعزز الشفافية ويرفع المردودية ويشجع الاستثمار"، في انتظار أن يشكل ذلك، كل القطاعات، ومنها "الرخص الاقتصادية، التي يجري إعداد منصة رقمية خاصة باستصدارها".
ويعتز المتحدث نفسه، بما اعتبره إنجازا في تطوير "المداخيل المالية الذاتية للجماعة، بوصفها دعامة أساسية لإنجاز المشاريع، إذ برسم 2016 استعطعنا رفعها بحوالي 8 %، أي 23 مليار سنتيم، وهو انجاز لم يتحقق طيلة 12 سنة الماضية"، وكذلك "الورش المتعلق بالأراضي غير المبنية والجبايات المتعلقة بها، إذ تم إحصاؤها اليوم بنظام معلوماتي جغرافي، وصارت كلها معروفة الإحداثيات والوضعية الضريبية والرسوم العقارية وهويات مالكيها ومساحاتها"، وهو قاعدة المعطيات التي أنجزت أيضا حول اللوحات الإشهارية، فـصرنا نعرف بدقة وضعيتها وحجمها".
وفيما يعطي نائب عمدة البيضاء المثال أيضا بقضية "تثمين ممتلكات الجماعة، إذ في الوقت الذي نلاحظ أن مدنا عالمية تعيش من مداخيل ممتلكاتها، وجدنا في البيضاء أنها غير محصية ومداخليها هزيلة جدا، فانخرطنا في ورش مهم لإحصائها وتثمين عائدات استغلالها، رغم الصعوبات الكبيرة والمقاومة التي تشوب هذه القضية"، يشير بخصوص المحور الثاني، إلى "السعي نحو تحقيق وحدة المدينة فعليا، بالرفع من ميزانيات المقاطعات ومحاربة التفاوتات المجالية بينها، من خلال توحيد المقاربات، مثلا، في ما يتعلق بصيانة الطرق وتهيئتها، وإقرار مخطط مديري جديد للسير والجولان، والشروع في إنجاز 15 مرأبا أرضيا للسيارات".
ولكن اللافت في حديث عبد الصمد حيكر، أن أغلب المشاريع التي ذكرها تدخل في إطار مخطط تنمية البيضاء (2015/2020)، الذي أطلقه الملك في 26 شتنبر 2014، كما يحيل على أن الإنجاز تتولاه إحدى شركات التنمية المحلية الخمس، وهي مجهولة الاسم، وشرع في تأسيسها ابتداء من 2008، وتوصف بأنها استحوذت على اختصاصات المجالس المنتخبة، سيما أن رئاسة مجالسها الإدارية تعود إلى والي وزارة الداخلية على المدينة، وعضوية رئيس مجلس المدينة، ورئيس مجلس الجهة، ورئيس مجلس العمالة، وبقية المساهمين في الرأسمال، وبينهم خواص، لذلك تظل اختصاصاتها وحدود رقابة مجلس المدينة عليها موضوع سجال وخلافات.
وعلى سبيل المثال، تتولى شركة البيضاء للتهيئة (كازا أميناجمون)، في ظل الجدل حول حدود سلطة المجلس المنتخب عليها، تنفيذ 15 مشروعا مهيكل مدرجا في إطار مخطط تنمية البيضاء (2015/2020)، وهي مشروع المنتزه الإيكولوجي سيدي عبد الرحمان (40 مليون درهم)، والممر تحت أرضي بشارع الموحدين (600 مليون درهم) وإعادة تأهيل المركب الرياضي محمد الخامس (220 مليون درهم) وتأهيل الطرق الداخلية (3.170 مليون درهم) وتأهيل الشواطئ (700 مليون درهم) ومربد شارع الراشدي (170 مليون درهم) وحديقة الجامعة العربية (100 مليون درهم) وحديقة عين السبع (250 مليون درهم) ومسرح البيضاء الكبير (1.440 مليون درهم).
وبينما تعتبر قضية احتلال الملك العمومي من قبل الباعة الجائلين ومظاهر الترييف في مركز المدينة، من الظواهر التي تثير حنق المواطنين في السنتين الأخيرتين، يعترف عبد الصمد حيكر، نائب العمدة، بوضوح تام أن القضية "معضلة كبيرة حبلى بالسلبيات، لكن أمام إقبال المواطنين على أولئك التجار لأنهم يوفرون لهم خدمة القرب، مقاربتنا ليست محاربتهم، إنما تنظيمهم وتأهيلهم للانخراط في الاقتصاد المهيكل، بالسعي إلى تعميم تجربة فضاءات تجارة القرب المجربة في عمالة مقاطعة سيدي البرنوصي"، أما وقف زحفهم وتحرير الفضاء العمومي منهم، فيقول حيكر: "قانونيا من اختصاص السلطة، ونحن بصدد مباشرة حوار معها بشأن ذلك".
أين لمسة "بيجيدي"؟
يعد إدريس الأزمي الإدريسي، عمدة فاس، شخصا مؤهلا لتقديم الحصيلة العامة لتدبير منتخبي الحزب للمدن الكبرى، بوصفه رئيسا لمؤسسة منتخبي حزب العدالة والتنمية، التي بادرت الأمانة العامة لتأسيسها فضاء للتنسيق بين المنتخبين وتبادل التجريب مع مواكبتهم وتأطيرهم، فقال إن تقييم المؤسسة يشير إلى أن "الحصيلة في عمومها إيجابية وبها إنجازات نفتخر بها، ولكن، تظل هناك أيضا مساحات للتجويد في المستقبل، وعموما نحن متفائلون بأن هذه التجربة ستنتهي إلى إنجازات مهمة في المستقبل".
وبالنسبة إلى المتحدث، أول ما يفتخر به الحزب في أداء منتخبيه، وبسانده في ذلك عبد الصمد حيكر، نائب عمدة البيضاء، يتمثل في "الحضور اليومي والفعلي للمسؤولين المنتخبين، يستمعون إلى المواطنين ويجيبون على شكاياتهم ومشاكلهم، ويمارسون اختصاصاتهم القانونية من خلال تفويض حقيقي ومؤطر للصلاحيات من قبل رؤساء المجالس، على خلاف الفترات السابقة".
ويذكر رئيس مؤسسة منتخبي الحزب، أيضا، "تفعيل المقاربة التشاركية مع كافة الشركاء من منتخبي المعارضة ومجتمع مدني ومسؤولي الشركات المنفذة للمشاريع، في إعداد برامج عمل الجماعة وقراراتها"، علاوة على "إرساء هيآت تكافؤ الفرص، والتواصل مع المهنيين وإشراكهم في إعداد دفاتر تحملات المشاريع، أو مراجعة القرارات الجبائية"، أما في ما يخص الإدارة الجماعية "فقد تمت المبادرة إلى إقرار حركات في الموارد البشرية بناء على معطيات ومعايير موضوعية، وتوحيد المساطر، وفتح نظام المداومة خلال عطل نهاية الأسبوع المصالح الإدارية".
وإذا كان منتخبو الحزب، يرون أن من إنجازاتهم، فتح أوراش تثمين الممتلكات الجماعية واستغلالها، والسعي إلى الرفع من الموارد المالية الذاتية للجماعات، وتفعيل أدوار الشرطة الإدارية، والقطع مع الاعتداءات المادية في نزع الملكية، بإقرار اعتمادات مالية مسبقة والحرص على تطبيق المسطرة القانونية تفاديا للتجارب السابقة التي أدت إلى أزمات مالية، يجمع الأزمي، عمدة فاس، ومحمد أمحجور، نائب عمدة طنجة، وعبد الصمد حيكر، نائب عمدة البيضاء، في ما يتعلق بظاهرة الباعة الجائلين، أنهم ضد محاربتهم دون توفير بديل منظم للأسواق العشوائية الحالية.
وفي هذا الصدد قال رئيس مؤسسة منتخبي الحزب: "الباعة المتجولون مشكل حقيقي في المدن، سيما بعد أن تجاوزوا الأحياء الشعبية وانتشروا حتى في المراكز، لكن تحرير الملك العمومي منهم، هو من اختصاص السلطة العمومية، ونحن مع مقاربة تعمل على توفير أسواق منظمة وإدماجهم في القطاع المهيكل، وبعدها اعتماد الحزم في تحرير الملك العمومي منهم".
وبخصوص الالتزام بالبرنامج الانتخابي للحزب، يعترف محمد أمحجور، نائب عمدة طنجة، أنه يستحيل تطبيقه بكيفية "أرذوكسية" أو تنزيله بطريقة "كوبي-كولي"، إنما "نحاول ما أمكن تنفيذ بعض أفكاره، وفقا لمتطلبات المعطيات الواقعية والموضوعية لم نستحضرها ولم نكن نعلم بها عندما كنا في المعارضة، من قبيل الأزمة المالية البنيوية بجماعة طنجة مثلا".
وبالنسبة إلى المتحدث ذاته، "النموذج المغربي يظل ديمقراطية ناشئة، فإذا قارنا أنفسنا بدول قريبة فنحن متقدمون، وإذا قارنا بدول أخرى فالعكس هو الصحيح، وبالتالي يظل نموذجا ذو نواقص، إذ في قطاع التعمير مثلا، فهو يدبر من ثلاثة أطراف وفيه إشكال حقيقي، كما هناك إشكالية عدم التناسب بين الاختصاصات والموارد البشرية للجماعات والإمكانيات القانونية المتاحة، وبالتالي أعتبر أن الحصيلة الإجمالية لتدبير حزب العدالة والتنمية للمدن إيجابية، وهناك نقط ضعف لابد أن نعالجها".
أما عبد الصمد حيكر، نائب عمدة البيضاء، فيعتقد أن الإجراءات المتخذة من قبل المجالس التي يسيرها الحزب بالأغلبية المطلقة، تنسجم مع مضمون البرنامج الانتخابي، فـ"هناك إشراف مركزي من قبل الحزب، وتوفير لفضاء للتنسيق وتبادل التجارب، وحرص من قبل القيادة على مدى الالتزام بالقيم الأخلاقية للحزب، دون أن يعني ذلك اتخاذ قرارات وتنزيلها، إذ يمارس الرؤساء اختصاصاتهم طبقا للقوانين التنظيمية للجماعات".
وإذا كان نائب عمدة البيضاء، يقر بدوره، أن "هناك أمورا فيها صعوبات ولم نحقق فيها نتائج كبيرة بعد، إلا أننا نسجل ارتياحا عاما لدى السكان وإحساسهم بثقافة جديدة في التسيير"، يؤكد إدريس الأزمي الإدريسي، عمدة فاس، أن "الذي حدث أساسا في السنتين الماضيتين هو إرساء قواعد العمل وإقرار شروط الحكامة الجيدة والشفافية، ومعالجة عدد من الإكراهات الموروثة، وحان الآن موعد الانطلاق نحو تحقيق تغييرات ومشاريع كبيرة"، مشيرا أنه شخصيا "متفائل بشأن نجاح تجربة الحزب في تسيير الشأن العام بعدد من المدن الكبرى والجماعات الترابية".