عدد من الأحداث التي عرفها المغرب مؤخرا يمكن أن يصنف ضمن ما يعرف ب " المراجعات"، لا أريد الخوض في تفاصيل ما وقع ولا في تداعياته وردود الأفعال المختلفة التي أعقبته، بحكم أن تراجع الشخص عن فكرة واختياره لغيرها يعد حقا فرديا، ليس من حق أي كان التدخل فيه أو الإملاء أو التحكم، فكيف إذا تعلق الحال بقضايا شخصية واختيارات حياتية للشخص فيها كامل الاختيار والحرية.
لكن الغريب عندي وما لا يعد من المقبول، هو ازدواجية التعامل عند البعض مع هذه القضايا وأمثالها، وما ما يخلف كل هذا الكم من التعليقات وردود الفعل المتشنجة، فحين يتعلق الأمر بأفراد المجتمع لا ندافع عن حرياتهم الفردية، ولا حماية اختياراتهم الخاصة في الحياة، ونقدم مفهوما غريبا للحرية مليئا بالقيود والمطبات والإشكالات، يفرغ المفهوم من كل حمولته ومبانيه، بل نحرض الدولة على التدخل في شؤون الناس، وعلى ممارسة دور الحماية والرقابة على الأخلاق، ونقف عقبة في وجه كل محاولات الإصلاح القانوني لما يمس حياة الناس واختياراتهم اليومية، فضلا على الخطاب العاطفي والتوجيهي المشحون بكثير من الطهرانية والمثالية، التي تصطدم مع الواقع والغريزة وطبيعة النفس البشرية.
لكن حين يتعلق الأمر بنا واختياراتنا وحياتنا الخاصة، بل حتى أخطائنا وزلاتنا، ندافع جميعا باستماتة عن الحريات الفردية، ونطالب بحماية الحياة الخاصة، ونقدم عشرات التبريرات والتأويلات لسلوكياتنا وتصرفاتنا وأخطائنا، مما كنا في غنى عنه لو كنا نؤمن بحق الناس في ممارسة حياتهم بكل حرية، ما لم يكن فيها اعتداء على الآخر وأذية له.
تبرز هذه الازدواجية مرة أخرى في التعامل مع هذه التراجعات أو المراجعات، - لا أجد فرقا كبيرا بين المصطلحين-، فحين يتعلق الأمر بمراجعات من هم خارج القبيلة، أو تطويرا للفكر والمواقف، ستسمع فنونا وأنواعا من الأوصاف الرديئة، من سب وشتم وتخوين ورمي بالنكوص والانهزامية وتغيير الجلد.
لكن حين يتعلق الأمر بابن القبيلة وتراجعاته الفعلية وليس القولية فقط، إلى حد اعتبار الحجاب الذي كان فريضة دينية، وسمة أساسية من سمات التدين المرأة، وتمظهرا مؤكدا لا غنى عنه بالنسبة لكل "ملتزم"، فضلا عن اعتباره من قطعيات الدين التي لا تقبل المس ولا حتى الطرح إلى نقاش، إلى كونه " لم يعد معيارا للتدين والالتزام الأخلاقي"، بل إلى حد الارتباط بامرأة غير محجبة، وتجاوز كل ما يعرف في فقهيات القوم ب"حدود التعامل مع المخطوبة"، ورغم كل هذا الانقلاب لا يعدو الأمر أن يكون رسالة دعوية وسياسية حسب قول بعضهم، هي جريمة إن ارتكبها من هو خارج القبيلة، لكنها رسالة وعبرة ودرس وعظي جميل إن تعلق الحال بمن هو داخلها، لا تستغرب إذن حين ترصد هجوما كاسحا على مستقلة اختارت نزع حجابها، فيما تشتغل كل آلات التبرير والتسويغ لتصرف مسؤول سياسي أو حزبي، يشبه الأمر كثيرا نظام الأولترا عند فرق كرة القدم.
تتوالى المراجعات في صفوف كثير من الإسلاميين أو الإسلاميين سابقا، وهو أمر محمود ومطلوب، هو تحريك للماء الراكد، و ترويض للعقول التي أمرنا بحسن استخدامها وتوظيفها لما فيه مصالح البلاد والعباد، لكن هذه المراجعات تحتاج لجرأة في التناول، فكم من القياديين بهذه الحركات، ممن أعرفهم شخصيا، لهم من الأفكار والمواقف ما يفوق كثيرا من الحداثيين، ولكنهم لا يصرحون بها ولا يجرؤون على ذلك، حفاظا على مصالحهم السياسية، وخوفا من الاصطدام بالجمهور وفقد الشعبية، وهو ما يضيع على القوى المتنورة كثيرا من الوقت والجهد نحو إصلاح الوضع القائم.