مقاطعة.. بـ "زيرو درهم"

حكيم عنكر

في شوارع الفيسبوك، لا يتردد هذه الأيام، إلا سؤال واحد: هل أنت مقاطع؟ المقاطعون يشعرون بزهو واسترداد شيء من الكرامة المهدورة أمام تغول الأسعار وتدني القدرة الشرائية. هذا شيء طبيعي، في بلد يبيض ذهبا لأصحاب الشركات الكبرى، من الماء إلى آخر منتجات الرفاهية.

....

هل المقاطعة عقاب سياسي من نافذة الاقتصاد، أم هي وعي طبقي للفئات الكادحة والطبقة المتوسطة، التي تدفع ثمن استقرار المغرب من جيوبها وعرقها، في حين تراكم الشركات المحلية الثروات وتبيع أسهمها لشركاء من الخارج، وتحولت بين عشية وضحاها إلى هولدينغات كبرى عابرة للحدود، في سباق الأرباح، مقتفية قولة الحجاج: حيثما تمطر فخراجها عندي.

أم أن المقاطعة، تمظهر من تمظهرات الصراع السياسي في المغرب، بعد أن تحول "صاحب الفلوس" في المغرب من كائن خائف يشتغل خلف الستار، إلى منافس سياسي، أنتج نقابات وأحزاب، يمكن نعتها بأحزاب وإطارات رجال الأعمال.

فمنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، برز وعي عند طبقة المال والأعمال في المغرب، بأنه لا حصانة للثروة إلا بمظلات سياسية تحميها، مطبقة المثل "ما حك جلدك مثل ظفرك".

....

كان الإنفاق المالي على الأحزاب من قبل "أغنياء" المغرب، يجري على شكل هبات عينية أو نقدية، في هيئة تموين مؤتمرات وطنية أو محلية أو دعم لقاءات أو التكفل بعشاءات ضيوف وليال فندقية أو حتى دفع "مشاهرات" لمقرات. ولم يكن هذا يشكل عيبا لا بالنسبة لأحزاب اليسار أو الإسلاميين الذي ولجوا الحياة السياسية من بوابة حزب الخطيب.

بل أن عبارة "سيروا عند فلان"، كان معمولا بها، ولا ضير في ذلك، وغالبا ما كان هذا "الفلان" رجل مال وأعمال يملك شركات في قطاعات متعددة.

لم يكن هذا السخاء، "فابورا"، حتى وإن جرى ذلك تحت اسم رنان "المقاولات المواطنة"، بل كان الدفع في القوانين ومشاريع القوانين من خلال التمثيليات السياسية.

....

ستتغير الصورة بعد ذلك تدريجيا، بعد بروز نخب اقتصادية جديدة، ورثت المقاولات العائلية، وحاولت الدفع بها إلى آفاق الشركات الحديثة. ولم يعد مقبولا لديها البقاء تحت "جناح سياسيين" محترفين أو نقابيين  يجيشون العمال أو يتحكمون في وتيرة الإنتاج وحركة السوق، خصوصا بعد حالة الانكشاف النقابي والحزبي والتي أظهرت زجا بالطبقة العاملة في لعبة مساومات فردية، ضيقة الأفق ومصلحية.

وكان أن دخل هذا الجيل الجديد إلى أتون السياسة كما دخل مجالات أخرى، مثل الصحافة، وأصبح يملك ثقلا في المشهد العام، سيسمى فيما بعد  "حزب رجال المال والأعمال" الموزع على كل التيارات السياسية.

....

اليوم، تأتي المقاطعة، كأسلوب بديل عن النزول إلى الشارع. أسلوب أقل تكلفة أو "بزيرو درهم". فلا يتعدى الأمر إمطار الآخرين بتدوينات من "ويفي" المقهى المجاور.

هل هذا أسلوب منتج وفعال؟ طبعا إنه مثير وصادم، لقد كانت النتائج فورية، حتى ولم تتسبب بخسارات لهذه الشركات، لأن المقصود ليس هو هذا، بل "قرصة" في الأذن، حتى يدرك أصحاب المال أن بلادا يعيش فيها 36 مليون نسمة، تزداد فيها التحديات كل يوم، وأن لا مفر من استحضار كل هذا الكم الهائل من البشر في سوق واسع وشرس ومليء بالألغام، يصبح فيه الموضوع الاجتماعي هو من يصنع السياسة ويوجه بوصلة أصحاب المال والأعمال.

لكن، هل تحمل بصمات تصفية حسابات سياسية بين أطراف في الساحة، قد يكون ذلك، وهو أمر وارد، لكنها إذا كانت تتم لغايات ضيقة، فإنها لن تخدم أيا من المتصارعين، بل ستؤدي إلى كارثة تحرق الجميع.

...

هذا هو الوضع اليوم، والمأمول أن تنزل الدولة بكل ثقلها لإعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية المفقودة، وأن يتحلى الفاعل السياسي والاقتصادي بالنزاهة والتعقل، حتى لا يكون حدث المقاطعة، صيحة في وادي، ولا ميدانا لتصفية الحسابات الصغيرة.

لقد سبقتنا بلدان في أميركا اللاتينية وغيرها إلى هذه الأساليب، بعضها نجح لأنها تمتعت بتأطير جيد من كل الفاعلين، وأغلبها فشل، لافتقاده  إلى طرح حلول واقعية، فقاد إلى الفوضى.

المقاطعة رسالة، واضحة اللغة

فهل قرأها جيدا من أرسلت إليه؟؟