من أين لك هذا ؟ فرصة تاريخية لوقف نهب المال العام
كلفة الفساد ثقيلة في المغرب، وملايير الدراهم تضل طريقها نحو خزائن الدولة أو المشاريع التنموية، لتصبح مصدراً للثروة، يتنفع بها من يجمعون بين المال والسلطة. أمام البرلمان "ليوم" فرصة لإقرار فصول من مشروع القانون الجنائي، قد تكون مدخلا لوقف الاغتناء غير المشروع، لكنها فرصة قد تجهضها الخلافات بين الفرقاء السياسيين، ولكل حساباته.
حسب منظمة "ترانسبرانسي المغرب"، فقدت المملكة 7 رتب في "مؤشر إدراك الفساد" خلال العام 2019، حيث احتلت الرتبة 80 من بين 180 دولة، في حين كانت خلال العام 2018 في الرتبة الـ73، نفس المنظمة قدرت كلفة الفساد في المغرب بما بين 200 إلى 300 مليار درهم سنوياً، رقم كبير يطرح السؤال حول ما العمل لوقف نزيف المال لصالح محترفي اختلاسه.
الجواب عن سؤال ما العمل، لقطع مصادر الثروة غير المشروعة على المنتفعين من المال العام، جاء في مشروع القانون الجنائي الجديد، والذي تحمل مواده فصولاً تجرم الإثراء غير المشروع، لكن تمريره داخل البرلمان لم يكن بالمهمة السهلة، سبب الخلافات ما بين فرق الأغلبية الحكومية نفسها، والتي ينتظر أن يجتمع زعماءها بحضور وزير العدل ، من أجل الوصول إلى ينهي الخلاف، لكن بأي ثمن سيصلون إلى توافق، إن كتب لهم التوافق؟ .
"تيلكيل عربي" بحث لدى رؤساء الفرق البرلمانية وأعضائها والنواب الذين يشاركون في نقاش مشروع القانون الجنائي داخل لجنة العدل والتشريع، عن التفاصيل التي حولها خلاف، خاصة ما هو مرتبط بالجهة المخول لها تحريك المتابعات في حق المنتفعين من المال العام، ومتى يجب محاسبتهم عما راكموه من "ثروة حرام"؟ هل المجلس الأعلى للحسابات قادر على تحمل عبء تنزيل التشريعات الجديدة؟ وهل ستبقى زوجة المسؤول أو زوج المسؤولة خارج دائرة المراقبة والمحاسبة؟ ولماذا سقطت العقوبات السالبة للحرية في حق الذين يراكمون الثروة غير المشروعة؟ وهل منح النيابة العامة حق تحريك المتابعات القضائية صمام أمان للمال العام أم مدخل يمكن استغلاله لتصفية الحسابات السياسية؟
سلطة المتابعة لمن؟
تختلف الأحزاب السياسية حول الجهة التي يحق لها تحريك المتابعات في قضايا الاغتناء غير المشروع. فريق يرى أن للنيابة العامة الحق في تحريك الدعوى مباشرة إذا ما حامت شبهة حول ثروة أحد المسؤولين أو الموظفين، وآخرون يعتبرون أن هذا الأمر يطعن في مبدأ قريبة البراءة، وقد يوظف بحسبهم في تصفية الحسابات السياسية.
البرلماني عن حزب العدالة والتنمية مصطفى الإبراهيمي يرى أن "القانون يجب أن ينص صراحة، على تحريك المتابعة من طرف النيابة العامة، دون انتظار تقارير المجلس الأعلى للحسابات"، ويشدد على أن "قريبة البراءة مضمونة إذا لم تكن مصادر الثروة مشبوهة أو غير مشروعة".
ويوضح المتحدث ذاته في تصريح لـ"تيلكيل عربي" على أن "المجلس الأعلى للحسابات لا يملك الإمكانيات البشرية واللوجيستكية لمعالجة الآلاف من الملفات، وقول كلمته فيها، قبل إحالتها على النيابة العامة".
ويتابع البرلماني عن "البجيدي" بالقول: "نحن أمام قضاء مستقل ونيابة عامة مستقلة، إذن لماذا الخوف من منحهما صلاحيات تحريك الدعوى والبت فيها".
مقابل هذا الرأي، يتبنى ئيس فريق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، شقران أمام، رأيا آخر في هذا الموضوع، ويلخصه بالقول "سننتقل من مبدأ قرينة البراءة إلى أن الكل متهم ويجب أن يثبت براءته".
ويشرح موقفه رئيس فريق حزب "الوردة" بمجلس النواب، أن "النيابة العامة لا تملك معطيات دقيقة وشاملة عن المواطنين، وهنا يمكن للشكايات الكيدية والشكايات المجهولة، أن تحرك الدعوى أو البحث، وهذا الأمر في حد ذاته سوف يضر بالعديد من الأشخاص، الذين سيجدون أنفسهم أمام سيناريو البحث عن براءتهم بأنفسهم، والأصل هو أن يكون لدينا ما يدينهم قبل جرهم للتحقيق".
ويستطرد شقران أنه علينا "احترام الاختصاصات الدستورية والقانونية للمجلس الأعلى للحسابات، والذي يملك معطيات دقيقة بفضل اشتغاله على ملفات المصرحين بالممتلكات، فضلاً عن أن هذا التصريح سوف يشمل فئات أوسع وسط الموظفين لدى الدولة".
نفس الموقف يعبر عنه عضو فريق التجمع الدستوري كريم الشاوي، والذي ذهب إلى حد القول، إن "منح النيابة العامة صلاحيات تحريك الدعوى قد يجرنا إلى اجتهادات قضائية متناقضة وأحكام متناقضة أيضاً. طرحنا في نقاشنا لهذه النقطة، أن المحكمة الدستورية قد تسقط التعديلات، لأنه هناك تعارض مع مبدأ دستوري وقانوني أساسي، وهو أن البراءة هي الأصل".
الشاوي الذي ساهم في مناقشة مشروع القانون الجنائي، يشدد على أن "النيابة العامة هي من يجب أن تقدم ما يدين مسؤولا أو موظفا بالإثراء غير المشروع، لا أن نجر الناس إلى القضاء بسبب وجود شكايات فقط، قد تكون في الأصل شكايات كيدية".
البرلماني عن حزب الاستقلال عمر العباسي، وهو أيضا عضو بلجنة العدل والتشريع، كان حاسماً في طرح الموقف الذي عبر عنه فريقه، ويعتبر من وجهة نظره أن "نقاش إسناد تحريك المتابعة إلى النيابة العامة مغلوط من الأساس". ويفسر رأي فريقه في حديثه لـ"تيلكيل عربي" بالقول: "نحن نثق في القضاء والنيابة العامة، ومن يتخوفون من إسناد تحريك المتابعة إلى الجهاز القضائي وكأنهم يقولون لنا إن جهة سياسة ما يمكن أن تسخره لصالح مصالحها أو لتصفية الحسابات مع خصم سياسي".
وعن الطرح الذي يدفع بترك الاختصاص حصراً للمجلس الأعلى للحسابات، يشدد البرلماني العباسي، على أن " المفروض في المؤسسات الدستورية في المغرب التكامل، ويجب أن تعزز هذه المؤسسات الشفافية والنزاهة، وعلى كل حال لا يمكن أن يلغي منح الاختصاصات القانونية للناية العامة في هذا الباب صلاحية المجلس الأعلى للحسابات".
رئيسة المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية عائشة الأبلق، ترى أن النيابة العامة"لا يمكن أن تبادر إلى تحريك الدعوى في قضايا الإثراء غير المشروع إلا إذا كانت لديها الضمانات بوجود شبهة حقيقية".
وتضيف في تصريحها لـ"تيلكيل عربي": "نحن لسنا أمام قضايا جنح عادية، هذا المال العام، والمسؤولون عنه موظفون سامون أو لدى الدولة، ولا أعتقد أنه سيتم تحريك دعوى قضائية ضد أحدهم دون وجود أدلة".
وعن دور المجلس الأعلى للحسابات، تقول الأبلق إن "دوره لا يمكن إلغاؤه بأي شكل من الأشكال وهو مهم، لأنه قضاته راكموا تجربة واكتسبوا خبرة في التدقيق في كل كبيرة وصغيرة تهم المال العام وسبل صرفه وتدبيره وتسييره".
العقوبات السالبة للحريات
مشروع القانون الجنائي الذي وضع أول الأمر، تضمن عقوبات سالبة للحرية، لكن تم التراجع عنها في آخر لحظة، هنا تتساءل رئيسة المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية عائشة الأبلق: "استغربنا لماذا جاءت المسودة الأولى لمشروع القانون الجنائي بعقوبات سالبة للحرية، ثم تم التراجع عنها في المشروع الذي توصلنا به في البرلمان".
نفس الموقف عبر عنه البرلماني الاستقلالي عمر العباسي، والذي يؤكد أن فريقه دافع عن أن العقوبات التي نص عليها مشروع القانوني الجنائي غير كافية، وتقتصر فقط على غرامات مالية يمكن أن تساوي حجم ما يجنيه المتورطون في الاغتناء غير المشروع.
"تيلكيل عربي" حصل على "الصيغة" التي يمكن أن يتوافق عليها زعماء أحزاب الأغلبية في لقائهم اليوم الجمعة، والتي ستظل خالية من العقوبات السالبة للحرية، مع الاكتفاء بغرامة مالية تتاروح ما بين 100 ألف إلى مليون درهم، فضلا عن إمكانية مصادرة الأموال والممتلكات الناتجة عن الاغتناء غير المشروع.
وبعيداً عن من يتحمل المسؤولية في تأخير طرح مشروع القانون الجنائي للمصادقة داخل البرلمان، يدافع رئيس فريق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية شقران أمام، عن رفض إدراج عقوبات سالبة للحرية في تجريم الإثراء غير المشروع، بأن "مصدر هذا الإثراء قد يكون الرشوة أو الابتزاز أو التزوير أو التدليس أو الاختلاسات أو الغش في التصريحات الضريبية... وكلها جرائم يعاقب عليها القانون، وهناك نصوص تجرمها، ولا يمكن أن نأتي بنص يحدد عقوبة سجنية تتعارض مع ما هو موجود أصلا بنص قانوني"
ويقدم شقران مثالاً يتجلى في أن "هناك من يراكم الثروة بالتهرب الضريبي، وعقوبته السجنية تصل لـ10 سنوات سجناً نافذاً، كيف سنضع قانوناً قد يخفض العقوبات مثلاً، هذا ضرب للقواعد القانونية القائمة".
في السياق ذاته، يتقاسم البرلماني عن التجمع الدستوري كريم الشاوي نفس وجهة النظر مع رئيس فريق حزب "الوردة"، ويضيف أنه "ليس هناك أي اختلاف حول تجريم الإثراء غير المشروع والمعاقبة عليه، لكن لا عقوبة ولا جريمة بدون نص، والجرائم التي تنتج مراكة الثروة بطرق غير مشروعة هناك نصوص قانونية تؤطر تحريك الدعوى والمتابعة القضائية بشأنها"، ويضيف: "ما نغلفه هو أن المادة التي نتجه للتوافق حوله، سوف تنص صراحة على مصادرة كل الأموال والممتلكات المتحصل عليها بعد تأكد الجرم".
وعن الأسباب التي دفعت لإسقاط العقوبات السالبة للحرية من مشروع القانون الجنائي، رغم أن المسودة التي أعدتها الحكومة كانت تتضمنها، يكشف البرلماني عن حزب العدالة والتنمية مصطفى الإبراهيمي، أن "كلاما باطل أريد به الباطل" هو من أسقط العقوبات السالبة للحرية.
ويشرح البرلماني الإبراهيمي، بعد الحاح من "تيلكيل عربي"، أن حلفاءهم " رفعوا شماعة تصفية الحسابات السياسية من الأول، وتم إسقاط العقوبات السالبة للحرية. نفس الشيء نتابعه اليوم مع الجهة المخول لها تحريك الدعوى، يمكن أن تقع استثناءات ولكن لن تشكل القاعدة، يجب أن يحاسب من ينهبون المال العام كيف ما كان انتماؤهم".
سلب حرية ناهبي المال العام.. ورأي المجتمع المدني
قبل شهر تقريباً، راسلت "ترانسبرنسي المغرب" أعضاء وعضوات مجلس النواب، وذلك في سياق النقاش حول التعديلات التي يحملها مشروع القانون الجنائي، الذي تعثر عرضه للمصادقة، أكثر من مرة.
وجاء في الرسالة التي يتوفر "تيلكيل عربي" على بنسخة منها، أن "تجريم الإثراء غير المشروع أضحى ضرورة ملحة، إذ لم يعد من المقبول في بلد تفشت فيه الرشوة وتبذير المال العام بشكل مزمن ونسقي، أن يظل الاغتناء غير المشروع للموظفين وباقي المؤتمنين على تدبير الشأن العام بدون ردع جنائي".
وتوضح الجمعية، على أنه "لا يمكن تجريم الإثراء غير المشروع إلا في إطار المبادئ الأساسية التي ينص عليها القانون، ومن خلالها، يتم تحديد الأركان المكونة لجريمة الإثراء غير المشروع وعبء الإثبات".
وتعتبر "ترانسبرنسي المغرب" في رسالتها، أن "الاعتماد على تتبع مراقبة الذمة المالية، هي الوسلية الأكثر ملاءمة وتوازناً لضمان قرينة البراءة والتحلي بالموضوعية من أجل تحريك الدعوى العمومية وإنفاذ القانون".
وتشدد الرسالة على أنه "يجب التمسك بالعقوبة السالبة للحرية اعتبارا لطابعها الردعي، على أن تقترن جميع العقوبات الجنائية بمصادرة الممتلكات المكتسبة بصفة غير شرعية، لتأكيد الإرادة على توطيد النزاهة في تدبير الشأن العام وسيادة القانون".
وترى "ترانسبارنسي" أن "الترابط القوي بين مراقبة الذمة المالية والوقاية من الإثراء غير المشروع يستلزم حتما إصلاح النظام الحالي للتصريح بالممتلكات، ومراقبة تطبيقه والمعاقبة على عدم احترامه".
وطالبت الجمعية من البرلمانيين والبرلمانيات " تعديل الفصل 8-256 من مشروع القانون الجنائي وذلك بإعادة التنصيص على العقوبة السجنية وربطها بمصادرة الممتلكات الناتجة عن اختلاس المال العام، في اتجاه ضمان فعالية أكبر" ، و"مراجعة عقوبة عدم التصريح بالممتلكات، موضوع الفصل 262 مكرر وتشديدها"، و" التعجيل باعتماد مشروع تعديل القانون الجنائي".
أقارب "المختلسين".. ووعود المحاسبة
رئيس فريق حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية شقران أمام، يدافع عن "التعامل مع زوجة المسؤول أو الموظف ككيان مستقل، وعدم الاستمرار في ربطها بزوجها، وإن كانت مذنبة يجب أن تحاسب هي بصفتها الشخصية، وعدم اعتبارها شريكة في مثل هذه القضايا، بل فاعلة".
برلماني العدالة والتنمية مصطفى الإبراهيمي، يقول إن حزبه "تقدم بتعديل يتضمن إدراج الزوج وليس الزوجة فقط. نحن نتحدث دائما عن زوجة المسؤول أو الموظف ولكن ننسى أنه عندنا مسؤولات وموظفات لديهن أزواج يجب مراقبة ذمتهم المالية، ويجب أن لا يشمل التصريح بالممتلكات من الأصل الأبناء القاصرين فقط، بل يجب أن يشمل الأقارب المقربون"
متى يتم تحريك المساءلة ؟
نقطة أخرى تتثير الجدل بين فرق الأغلبية، وهي: متى يتم تحريك المساءلة حول مصادر ثروة المسؤولين والموظفين لدى الدولة؟ هناك طرحان، الأول يدفع بتأخير المساءلة إلى حين الانتهاء من المهمة أو المسؤولية، وطرح ثاني يدافع عن المساءلة في وقت وقوع ما يثبت الحرم.
مصطفى الإبراهيمي البرلماني عن "البيجيدي" يلخص موقفهم بالقول: "لا يمكن أن ننتظر 30 سنة، حتى نحاسب مسؤولا أو موظفا عن مصادر ثروته، هذا المقترح لم تأت به الحكومة في مشروع القانون الجنائي ولا يمكن فرضه أو القبول به اليوم".
عضو لجنة العدل والتشريع خالد الشاوي، يرى بدوره أن المدخل لحل كل هذه الإشكاليات المطورحة، هو "التدقيق حين التصريح بالممتلكات، سواء تعلق الأمر بالمعني بالأمر أو أقاربه"، و يفسر طرحه بالقول: "عند مثول المسؤول أو الموظف أمام المجلس الأعلى للحسابات ليصرح بممتلكاته، يمكن أن يقول أي شيء، هنا يجب أن يتم التدقيق في ما صرح به، ومقارنة دخله ومصادر ثروته بما يملك، وهذا سيقطع الطريق أمام التدليس من الأصل".
أما رئيس فريق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فيشدد على أن "مراقبة مصادر ثروة المسؤولين والموظفين، هو اختصاص مجموعة من مؤسسات الدولة، ومنها مفتشية وزارة الداخلية، وتفعيل عمل المفتشيات في كل الوزارات كفيل بضبط أي مصدر غير مشروع للإثراء".
استشاري الفساد، الذي تؤكد التقارير الوطنية والدولية، أنه أصبح عاما وبنيويا، يفرض معالجة صارمة ورادعة، تخرج البلاد من شبهة التساهل مع ناهبي المال العام إلى وضوح القطع مع " الإفلات من العقاب" .