بقلم: مريا العلوي
في أقل من عقد، انتقل الذكاء الاصطناعي من كونه مجرد مفهوم تقني يُناقش في الأوساط الأكاديمية إلى قوّة اقتصادية عالمية تعيد تشكيل موازين القوى وتعيد رسم الخرائط المالية والاجتماعية للدول، وبينما تشتد المنافسة بين الدول على الريادة في هذا المجال، يظهر جليًا أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد خيار تكنولوجي، بل أصبح ضرورة استراتيجية تمسّ جوهر السيادة الاقتصادية والتنموية.
الذكاء الاصطناعي اليوم يُحدث طفرة في كيفية إنتاج الثروة وتوزيعها، تمامًا كما فعلت الكهرباء في بداية القرن العشرين. تشير تقديرات مؤسسات دولية إلى أن مساهمة هذا القطاع قد تتجاوز 15 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول 2030، وهي قفزة تاريخية تجعل منه أداة رئيسية في تحقيق النمو والتنمية. غير أن هذه الطفرة لن تعمّ الجميع بنفس الدرجة، إذ ستتوقف جدواها على مدى استعداد الدول لتبني التحول الرقمي بعمق وذكاء.
فالدول التي تستثمر في التعليم المتخصص، البنية التحتية الرقمية، وإنتاج البيانات ستجني فوائد هائلة، بينما قد تجد الدول المتأخرة رقميًا نفسها على هامش الاقتصاد العالمي. الصين، مثلًا، تستعد لحصد ما يعادل 26% من ناتجها المحلي بفضل تبني الذكاء الاصطناعي، في حين تُسجّل الولايات المتحدة معدلات نمو مرتفعة من خلال اعتمادها على الابتكار والشراكة بين القطاعين العام والخاص.
من جهة أخرى، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لرفع الإنتاجية، لا سيما في القطاعات التي تعاني من بطء تقليدي مثل الصحة، الزراعة، والتعليم. قدرته على تحليل كميات ضخمة من البيانات في وقت قياسي، وتقديم حلول دقيقة، تجعل منه عاملًا حاسمًا في تحسين الخدمات وتخفيض التكاليف. لكن هذا التحول له وجه آخر: ملايين الوظائف الروتينية معرضة للزوال، ما يفرض إعادة هيكلة كاملة لسوق العمل تتطلب تكييفًا سريعًا للمنظومات التكوينية والمهنية.
كما أن الذكاء الاصطناعي أصبح مركز جذب للاستثمارات الكبرى، سواء من قبل شركات التكنولوجيا العملاقة أو من خلال الصناديق السيادية التي باتت تعتبره محورًا أساسيًا في استراتيجياتها التنموية. ففي الخليج العربي، مثلًا، نشهد توجهًا قويًا نحو بناء مدن ذكية، مراكز بحوث، وأطر تشريعية تُمكّن من احتضان هذه التكنولوجيا وتحويلها إلى رافعة اقتصادية جديدة لما بعد عصر النفط.
في هذا السياق، لم يعد النفوذ الاقتصادي يُقاس فقط بحجم الناتج المحلي أو الصادرات، بل بمدى امتلاك الدول لسيادة رقمية وقدرتها على التحكم في بياناتها، إنتاج خوارزمياتها، وتأمين نظمها السيبرانية. نحن نشهد ميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد يتجاوز الجغرافيا، تُحدد فيه موازين القوى من خلال المعطيات، القدرات الحسابية، ومهارات التفكير الاستراتيجي.
لكن هذا المسار، رغم بريقه، محفوف بتحديات كبيرة. فغياب العدالة في الوصول إلى التكنولوجيا، واستمرار الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب، قد يُعمّق الانقسامات الاقتصادية، كما أن القضايا المرتبطة بالأخلاقيات، الخصوصية، والتحكم في الخوارزميات تفرض ضرورة التفكير في نماذج حوكمة عادلة ومستقلة.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تطور عابر، بل هو "نقطة تحول تاريخية" تُرغم الدول، المؤسسات، وحتى الأفراد على إعادة النظر في أدوارهم، قيمهم، ونماذجهم الاقتصادية. الدول التي تدرك مبكرًا هذا التحول، وتستثمر فيه بذكاء وشجاعة، ستكون في مقدمة قاطرة الاقتصاد العالمي الجديد. أما من يكتفي بالمشاهدة، فقد يجد نفسه يومًا ما خارج اللعبة.