من ينقذ العرائش من التطرف؟

محمد عبد االوهاب رفيقي (أبو حفص) / خاص
محمد عبد الوهاب رفيقي

لم أكن أتصور وأنا أتلقى منذ شهور دعوة من أصدقائي بمدينة العرائش لحضور فعاليات المهرجان الدولي لتلاقح الثقافات  في دورته السابعة، والمشاركة في ندوة على هامش المهرجان حول قيم التسامح والتعايش، أن تمكنني هذه الزيارة من ملامسة تاريخ هذه المدينة الساحلية، والوقوف على دورها الحضاري والثقافي، مما أجده مغيبا عن الأضواء، والاعتناء الثقافي الذي تناله مدن أخرى لا تمتلك كل هذا الثقل والذاكرة التاريخية.

لن أتحدث عن الدور الاستراتيجي الذي لعبته المدينة تاريخيا، بحكم موقعها الحساس، وتشكيلها لحلقة الوصل بين المغرب وجيرانه، بقدر ما سأقف حول صور التعايش والتسامح التي عرفتها ولا تزال إلى اليوم تعرفها، مما يجعلها نموذجا صالحا للدراسة، و مثلا تاريخيا يمكن توظيفه لتربية الأجيال القادمة على هذه القيم التي عاشها أجدادنا واقعا لا تنظيرا، قبل أن تهب الرياح الوهابية العاتية، لتحول هذه المدينة من أيقونة للتسامح والتعايش، إلى واحدة من أكثر مدن المغرب تفريخا للمتطرفين والإرهابيين.

فقط في النصف الأول من القرن الماضي، عاشت مدينة اللوكوس صورا راقية من التعايش والتعددية، تفتح معابد الديانات الثلاث أبوابها لاستقبال العباد والمريدين، يؤم المسلمون مسجد الجامع الكبير لأداء الصلوات الخمس، ويقصد المسيحيون كنيسة سان خوسيه لأداء صلاة الأحد وطلب العفو، ويقصد اليهود معابدهم لأداء صلوات السبت وطقوسه.

ليس بالعرائش حي يهودي يعرف بالملاح كما في باقي مدن المملكة، لأنهم لم يستقلوا يوما بحي خاص، ولم يتفردوا يوما بجهة معزولة من المدينة، شكل اليهود من السفارديم والموريسكيين القادمين من الأندلس جزءا من نسيج مجتمع المدينة، واختلطت كل الديانات والثقافات فوق بقعة واحدة، حتى احتفالاتهم توحدت، فيشارك اليهود والمسيحيون بطقوس عيد الأضحى، ويهادي اليهود إخوانهم المسلمين والمسيحيين من طعام عيد الفصح، ويجتمع أبناء الديانات الثلاث بساحة كبرى عمومية لإحياء حفلات الكريسماس، في أبهى صور التعايش والتسامح.

من حسنات مهرجان العرائش لتلاقح الثقافات، أنه يعرف حضور كثير من الإسبان الذين قطنوا بهذه المدينة، وعاشوا بها فترة من الزمن، قبل رحيلهم عنهم قسرا لأسباب ليس هذا موضع الحديث عنها، يعودون إلى المدينة لإحياء أواصر المحبة التي جمعتهم بها وبأهلها، بعيدا عن سياقات الاحتلال وأسباب استقرارهم هنا، لكنهم لا يستحضرون اليوم إلا تلك الصور الجميلة في تنزيل هذه القيم وتحقيقها.

شاركني بالندوة التي ساهمت في تأطيرها على هامش المهرجان، الكاتب الإسباني سرخيو باروس، واحد من هؤلاء الذين ولدوا بهذه المدينة وعاشوا بها أزهى فترات حياتهم، ليتحول إلى كاتب بارع وراو مبدع، في الحديث عن أيامه وقصصه التي قضاها بين أزقة العرائش وحواريها، يتحدث بكل تفصيل في كتابه : إيلتامس نوتيسياس دو لاراش، أي  آخر أخبار العرائش، كيف عاش مع المسلمين واليهود دون أن يحس يوما أنه يختلف عنهم دينا وعرقا، مما جعله شديد الوفاء لمدينة يعتبرها وطنا له كما هو حاله في إسبانيا.

كيف  تحولت العرائش بكل هذا التاريخ الجميل، رغم بقاء كل آثاره الشاهدة عليه، ورغم أن الأجيال التي صنعته لا زالت معنا تحكي عنه بكل حرقة وألم، إلى مشتل لاستنبات التطرف وقيم الكراهية والعدوانية.

لا زلت أذكر نهاية القرن الماضي، حين كانت لندن البريطانية عاصمة للتنظير الجهادي في العالم، وكان البعض يدعوها تندرا ب " لندنستان"، وكانت كتب العقائد الجهادية تصدر من هناك، حيث كان شيوخ التطرف ينعمون بالحماية القانونية والسياسية، ويستفيدون من خيرات النظام الاجتماعي، ويكتبون من هناك عن وجوب محاربة الكافر وإعلان العداوة عليه، وكانوا لا يتورعون عن التصريح بأن بريطانيا كالمرحاض حيث قضاء الحاجة، وقتها كان اغلب الملتفين حول هؤلاء المشايخ من المغاربة المنحدرين من مدينة العرائش، بحكم أن عددا كبيرا من سكان المدينة رحل إلى بريطانيا في وقت مبكر.

وقد كان لوجود هؤلاء حول أبي قتادة الفلسطيني وغيره أثر في ما وقع من تحولات بالمدينة، حيث استبدلت النموذج المتسامح بأفكار ضلامية، تسربت وانتشرت تزامنا مع الاكتساح الوهابي، بما كان يصل من لندن من رسائل وكتيبات ومنشورات، لا حديث فيها إلا عن كفر الآخر وكرهه ووجوب قتله.

ولا عجب أن تكون هذه المدينة أيضا بعد ذلك موردا أساسيا للمغاربة الدواعش، وأن يسقط عدد من أبنائها ضحية لعقائد فاسدة وإيديولوجيات مدمرة، وصراعات إقليمية ودولية.

من يتحمل إذن مسؤولية هذا التحول؟ ، الأفكار المتطرفة والإقصائية لا تجد لها في الغالب مكانا إلا حين تصادف بنية هشة ووضعا اجتماعيا واقتصاديا مستجيبا لخطابها وآليات اشتغالها، لذلك يحق لنا أن نتساءل من أهمل هذه المدينة بكل ثقلها التاريخي، بموقعها لكسوس أحد أقدم المواقع التاريخية التي تعاقبت عليها حضارات وثقافات مختلفة، بمينائها التاريخي الذي كانت تحط به كل البضائع المتوجهة إلى العاصمة فاس، بكل مآثرها التي طال أغلبها الإهمال والخراب، بثرواتها الاقتصادية الكبرى، من بحر بثرواته السمكية الغنية، وسهل ممتد ينتج أطنانا من الفواكه الحمراء والكاوكاو وغيرهما من المنتجات، من مدينة تمتلك كل مقومات الصناعة السياعات التنمية، إلى بلد لا حلم فيه لساكنه إلا تركه والهجرة منه، كان ذلك إلى أوربا طمعا في الرفاه والرخاء، أو إلى القاعدحية والفلاحية ورافة وداعش طمعا في ثنتين وسبعين من الحور العين.

أملي أن يسهم مثل هذا المهرجان،وغيره من الأنشطة الثقافية بالمدينة، في استعادة تلك الصور القديمة المبهجة، وفي تربية الأجيال الجديدة على تلك القيم النبيلة، وتنظيف ما أحدثته العقائد الوهابية، وأهم من ذلك، استعادة المدينة لدورها التاريخي والاستراتيجي في تنمية المنطقة، حتى لا يضطر أبناؤها لخذلانها.