قال أحمد المديني، الكاتب والروائي والناقد، إن "الظاهرة الجديدة التي أضحى العرب المسلمون والمسلمون عامة في فرنسا يمثلونها، وتلفت انتباه أكادميين وعلماء اجتماع ودوائر إعلامية ومؤسسات معنية بالهجرة. كيف تصبح فرنسا، أرض الحلم بالنسبة لملايين الأفارقة ومن الشرق، أيضا، والبلد الذي من أجل الوصول إليه تغرق مراكب محملة بالمئات في عرض الأطلسي والمتوسط، ويحجز الآلاف في مخيمات وخطوط بين الحدود في أوضاع لا إنسانية؛ هي ذاتها البلد الذي يعرف تحولا نقيضا وجذريا إذ شرع مئات بل آلاف من ذوي الأصول العربية والإسلامية يفضلون مغادرته، تركه إلى بلدان أخرى، أو ما أسميه الهجرة المضادة".
وأضاف المديني، عشية الخميس المنصرم، في مداخلته بندوة النخب العربية في المهجر: التحدي القائم والدور الممكن" ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي، أن "هذا ما حدث فعلا ويتنامى وإن في صمت، لا يكاد يرى أو يسمع عنه، في خضم الأحداث الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية والتحولات الجيلية والإيديولوجية التي تعرفها فرنسا في السنوات الأخيرة، اهتزت معها بقوة مبادئ المساواة وقيم التسامح واستقبال الأجنبي وأرض اللجوء، وانتصر فيها التعصب الوطنياتي مع تصاعد عال لليمين المتطرف ونزعة عنصرية نبرتها ومظاهرها تعلو أكثر، لتدفع قسما لا يستهان به من الفئة المذكورة إلى التخلي مكرهين أو راغبين عن بلد يقولون بالرغم من كل شيء إنهم يحبونه، فكيف، ولماذا هذا الحب القاسي؟".
وأوضح صاحب رواية "ممر الصفصاف"، أنه "هنا نصل إلى القضية في الجوهر، إلى الأسباب التي تجعل من يحبون فرنسا يغادرونها في الحقيقة على مضض. فما هو هذا المضض؟ ليس ماديا بتاتا. إنه ذو طبيعة عقيدية وعرقية وسيكولوجية وسوسيولوجية".
وأشار مؤلف كتاب "مغربي في فلسطين"، إلى أن "الشرائح المدروسة التي قامت بالهجرة المضادة معدل عمرها 35 عاما. وهي متنوعة الأصول الجغرافية، مغاربية بأغلبيها وقليل مشرقية، تصنف في المجتمع مسلمة بحكم أنها عربية تمارس دينيا أو لا، أنت بدون أي علامة دالة كالحجاب لدى المرأة ديانتك في سحنتك. وهي شرائح تنتمي غالبيتها إلى النخبة، ذات تكوين رفيع، وعالية التأهيل، عرفت تحسنا وترقية في السلك الاجتماعي. تعمل في مؤسسات عمومية وقطاع خاص في مواقع مميزة، أي أنها ذات دخل جيد. وبحسب نظرية (هرم Maslow) عن تراتبية الحاجات لدى البشر تقع خارج مرتبة الافتقار إلى الفيزيولوجي المادي لها حوافز ومطالب أرقى، كالطمأنينة. هؤلاء منذ ست سنوات واليوم يغادرون فرنسا بلدهم إلى آفاق أخرى تتوزع بين أوروبا الغربية: بلجيكا وأنجلترا، وأبعد إلى كندا، وإلى بلدان الخليج العربي الإمارات العربية المتحدة وقطر، وقلة يرجعون إلى بلدان آبائهم لكن للعمل والعيش في أوضاع مرفهة، إلى المغرب والجزائر".
وأورد أن "هناك فئة أخرى، وهي الأكثر تضررا والمرأة مركزها، إذ تحس أنها لا تستطيع ممارسة دينها على الوجه الكامل وتتعرض لمضايقات شخصية أو اجتماعية ورسمية شاملة. إنها تتغاضى عن أساليب التمييز وعما يشبه السلوك العنصري تجاهها، لكنها تصاب في الصميم بإحساس التضييق على معتقدها للصلاة في مساجد يغلق القليل المتوفر منها، وفي أداء فريضة الصيام وسط مجال يتحفظ ممن يختلف عنه، فيتكتم الصائم أو يخادع يخفي صيامه كجرم أو سرقة، لهذا أمثلة بلا حصر. فما بالك بما تتعرض له النساء من جراء وضعهن للحجاب، وهذا تحول في فرنسا رسميا وسياسيا لدى اليمين المتطرف وفي وسط المسلمين إلى أزمة مجتمعية ابتداء من صدور القانون الذي يمنع ارتداء العلامات الدينية في الفضاءات العملية وانتهاء أخيرا جدا بقرار وزارة التربية الوطنية منع دخول التلميذات المسلمات إلى المدارس ب(العبايات) وهو ما امتثل له قسم ويتمرد عليه قسم آخر. الحاصل، أن مرتديات الحجاب يعانين بسببه في أعمالهن وعلاقاتهن، وعند بعضهن يتضاعف الإحساس بالتمييز. هذا الشعور حقيقيا كان أو مضخما تحول عندهن إلى ما يشبه الاضطهاد الديني فقررن وأزواجهن البحث عن ملاذ".
وأكد أنه "حسب الدارسين أصحاب التحقيق المستفيض، فإن حدث (طوفان الأقصى) وتبعاته ضاعف لدى العرب والمسلمين في فرنسا من الشعور بنقصان الأمان وتفاحش ظاهرة (رهاب الإسلام) l’Islamophobie وتصاعد النعرة المتطرفة التي كان المتعصب إريك زمور قد غداها بقوة بترويجه لأطروحة ما سماه (الإبدال الكبير le grand déplacement) عنى بها وجود خطة ومؤامرة مدبرة ضد فرنسا وشعبها لإحلال المسلمين بدلهم".
وأورد أنه "لا يفوت بعد هذا الإشارة إلى قرارات حل وملاحقة جمعيات إسلامية، وقطع المساعدات العمومية عنها وإغلاق حساباتها البنكية، وفي آخر هذا المسلسل توجيه تهمة مديح الإرهاب لنائب برلماني لمناصرته القضية الفلسطينية في حدث ما. هكذا وأمام المشاهد المروعة في غزة، والاستنكار العالمي لما تعرض له الفلسطينيون من قتل ودمار، وجد كثير من العرب والمسلمين أنفسهم محبطين عاجزين أو متخوفين من التعبير عن تضامنهم واحتجاجهم يخونون بتهمة جاهزة (معاداة السامية) وتستعملهم أحزاب وقنوات إعلامية كبش فداء بتغويل الإسلام وترويع المسلمين. هذا كله وسواه ولد ظاهرة الهجرة الصامتة المضادة ولا غرابة أن تستفحل مع الصعود المثير لليمن المتطرف ليس في فرنسا وحدها بل في أوروبا الغربية، مما أصبح يثير مخاوف ذوي الأصول العربية الإسلامية ويدفعهم للبحث عن ملاذات آمنة خاصة تجاه هذا الاستثناء الفرنسي".