استأثرت واقعة نزع نائبة برلمانية من حزب العدالة والتنمية لحجابها وهي تتنزه بباريس باهتمام وحديث الناس والمواقع والتواصلية خلال الأسبوع الماضي، بين من يستنكر هذا الفعل ويعتبره نوعا من الازدواجية المرفوضة،ومن يعتبره شأنا خاصا لا يعني الرأي العام، بين من يعتبرها صورا مفبركة وبين من يراها صورا حقيقية، قبل أن يحسم الموضوع بالاعتراف الضمني للمعني بصحة الصور، ليتحول النقاش نحو الحريات الفردية وضرورة ضمان الحياة الخاصة للأشخاص.
شخصيا لا أحب الخوض في خصوصيات الأفراد، ولا التدخل في اختياراتهم الدينية والفكرية والحياتية، ولا أحب الخوض في حيثيات الموضوع وتفاصيله، وفاء لهذا المبدأ، إلا أن ما أثارني هو حديث بعض القيادات الإسلامية في معرض التبرير للسيدة النائبة عن مبدأ الحريات الفردية وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وأن للمرأة الحق في أن ترتدي ما تشاء وتترك ما تشاء، وأنه لا يمكن للدولة التدخل إلا فيما كان جهرة وفي فضاء عام.
خطاب جميل وجذاب ومقنع، ولا عيب فيمن لا يؤمن بشيء أن يؤمن به يوما ما، فأنا شخصيا والكثير معي كنا في زمن ما نؤمن بضرورة التدخل في شؤون الآخرين، وبضرورة قيام الدولة ب" حماية الدين" عن طريق منع الناس من "المعصية"، و "أطرهم على الحق" بالتعبير السلفي، وبضرورة تدخل قوة القانون لمنع الناس من إتيان المنكر ولو بالقوة، وكنا نرى ذلك من الواجبات والفرائض، ونعتبر المقصر فيها ناقص الإيمان غير مكتمل الديانة.
لكننا اليوم نؤمن بمبدأ الحريات الفردية، وبضرورة حماية الحياة الخاصة للأفراد، وعدم التدخل في اختيارات الغير العقدية منها والسلوكية ما لم يكن فيها إيذاء للغير، والتفريق بين الفضاء الخاص الذي ليس لأحد التدخل فيه، والفضاء العام الذي يؤطره القانون تبعا لقيم المجتمع وحركيته ونقاشاته دون فرض أي وصاية إيديولوجية.
ونعلن عن هذه المراجعة والتطور الفكري للناس دون أي تحرج أو غموض في المواقف، وأعتبره شخصيا أمرا طبيعيا بحكم ما تضيفه الحياة من معارف وتجارب واحتكاك بالآخر، بل مما يدعو للاعتزاز والفخر.
لذلك فإن تصريحات هذه القيادات عن الحريات الفردية لن يكون لها معنى في نظري ولا أثر ولا مصداقية، إلا إذا:
- كانت واضحة صادقة دون أي لبس أو غموض، بحيث يقال كنا نؤمن بكذا واليوم بسبب كذا وكذا اصبحنا نؤمن بكذا وكذا، خصوصا وأننا نتحدث عن مشروع دعوي فكري سياسي شكل دوما بطرحه المحافظ سدا أمام دعاة الحريات الفردية، ومانعا أمام تغيير القوانين المتعلقة بذلك، وحاول تأطير المجتمع بخطاب وعظي وأخلاقي يتعارض تماما ومبدأ الحريات الفردية.
- ألا تكون هذه التصريحات فقط عند أزمة معينة، أو تهربا من الوقوع في حرج معين، بل أن تكون منهجا ثابتا واختيارا مستمرا يظهر أثره ليس فقط في التصريحات المناسباتية، بل في الكتابات والأدبيات والاختيارات الفكرية لهذه الحركات والأحزاب، وهو ما لا نجده إلى اليوم.
- أن تشارك هذه الحركات في النضال الحقوقي لضمان هذا المبدأ، وحماية الحريات الفردية والحياة الخاص للأشخاص، في المؤسسات التشريعية، ولم لا المبادرة إلى اقتراح إلغاء كل القوانين التي تمس الحرية الشخصية للأفراد، كالفصول 222، 490، والتي تمس الحريات الجنسية، والإفطار العلني في رمضان، حينها سيتأكد الجميع من صدقية هذه التصريحات.
- أن يتضمن البرنامج الانتخابي لهذه الحركات الإشارة إلى هذا التحول، وعدم تنافيه مع المرجعية الإسلامية التي هي ملك للجميع دون احتكار من أي جهة، وأن يعرف الناس أن هذا الحزب هو حزب مدني يؤمن بالحريات الفردية كسائر الأحزاب اللبرالية واليسارية...
حينها سأثمن وبكل قوة هذا التحول، وسأعتبره شجاعة وجرأة وجب دعمها وتأييدها، لا التبخيس منها ولمزها بعدم الصدق والوضوح...
وعموما: أظن أن مثل هذا النقاش الرائج اليوم، هو فرصة تاريخية لنا جميعا، لنتحد حول مبدأ الحريات الفردية، ولنسعى جميعا بكل قوة إلى إلغاء القوانين التي تتدخل في حياة الناس، ولنقترح القوانين التي تحمي حرية الأفراد في اختيار عقائدهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وتعاقب كل من حاول استغلالها أو التدخل فيها، فلا أظن أننا بعد اليوم سنجد من يقف عقبة أمام ذلك أو يرفع أي شعار يمنح للدولة او للمجتمع حق التدخل في خصوصيات الأفراد وحياتهم.