نهاية إنسان الأزمنة الحديثة

هادي معزوز

 veux-tu marcher avec le troupeau ? en tête ? ou de ton côté ?… il faut savoir ce que l’on veut, et que l’on veut quelque chose. Quatrième cas de conscience. »

                  F.Nietzsche.

 

تأملوا معي هذه السلسلة اللامتناهية التي نقوم بها آلاف المرات دون وعي او انتباه منا، وإن كانت تشكل مجمل حياتنا:

نستيقظ صباحا على صوت المنبه الذي نَنفُرُ منه، وفي نفس الوقت نكون حريصين جدا على ضبطه ثانية بثانية.. نلعن الدراسة أو العمل الذي كان سببا في هذا الاستيقاظ غير المرغوب فيه، والضروري في الآن نفسه، لكن وفي مقابل ذلك لا يمكن تصور حياتنا دون الحصول على وظيفة قارة تجنبنا عديد الأهوال.. نختار ملابسنا بعناية كبيرة إرضاء لنظرة الآخرين، أو بدافع موضة العصر ثم نجلس على مائدة الأكل لتناول فطور الصباح وقراءة الجرائد وشرب القهوة السوداء، وبين الفينة والأخرى نقلب معاصمنا حيث عقارب الساعة التي كلما قطعت ثانية كلما قضمتها من حياتنا.

منا من يتوجه إلى عمله عبر سيارته الخاصة، حيث لا يفوته طقس المذياع وخصوصا التجسس على أخبار الآخرين.. شخصيا لا أعرف لماذا تنتعش الصحافة بالقتل والحروب والوقوف على فضائح المشاهير وأسرارهم! على النقيض من ذلك نجد من يستعمل وسائل النقل العمومية، والتي تكفي للحصول عل نظرة شاملة تلخص حال عالمنا هذا: الأغلبية الساحقة غارقة في هواتفها الذكية، منهم من يلعب، ومنهم من يبحر عبر وسائل الاتصال الاجتماعية ولا شيء غير ذلك، فئة أخرى تتقن التلصص في وجوه الآخرين والوقوف عند ما يظهرونه، وفئة أخيرة لازالت تعيش تلك الحالة غير المستقرة بين النوم واليقظة.

نقضي بياض يومنا أمام الحواسيب، والآلات، وعديد الطقوس التي لا تنتهي دون دراية بأنها مجرد حيلة وقد نالت معنى ما، بل إننا نقوم بأشياء كثيرة في لحظة واحدة: ننقر على أزرار الحاسوب.. ننتظر في الآن نفسه رسالة إلكترونية.. أما اليد الأخرى فإنها تمسك سماعة الهاتف الذي نتواصل به مع أشخاص آخرين في زمان ومكان مختلفين، لو قلنا ذلك لأجدادنا الأوائل لما صدقوا ما وصلنا إليه، ولقالوا عنا أننا بدائيون بالطبيعة.

بعد أن تصل عقارب الساعة إلى موضع معين أو بالأحرى متفق عليه، نتوصل برسالة عُرفية تعلن موعد الغذاء. نتوجه بسرعة إلى المطاعم أو منازلنا، نتناول ما تيسر كل حسب انتماءه الطبقي، دون أن يكف دماغنا على الاشتغال: نتبادل خبرا ما.. نتحدث عن العمل.. نشاهد نشرات الأخبار التي لا تكف على التشهير بالجثث والفضائح الكاذبة منها والصادقة، دون أن تكون لها الجرأة على تسمية الأشياء بمسمياتها.. نعود إلى العمل بعد ذلك متمنين لو أتيحت لنا هنيهة نمارس فيها القيلولة، هي أمنية وانتهى الأمر. لكن وكتعويض عن هذا العذاب نلعن العمل ونسبه، ثم نتراجع عن ذلك إذ لا يمكن تصور شرط وجودنادون عمل.

الذين ذهبوا في الصباح إلى الدراسة أو الشغل يعودون مساءً ـ مثل القطيع الذي يذهب إلى المرعى صباحا ثم يعود إلى حظيرته بعد انزلاق قرص الشمس في الأفق البعيد ـيأخذون لأنفسهم حماما طلبا لانتعاش وهمي، يتناولون وجبة عشاءهم ثم يجلسون أمام شاشاتهم كل حسب اختياره ولا أحد حرا، بعد ذلك تقصد هاته الشخصيات الآلية غرف نومها.. ينتهي المشهد كي يتكرر في اليوم الموالي دون انقطاع يذكر.. يتكرر من جيل لآخر وكأن ما حدث بعد الثورة الصناعية هو نفس ما يحدث اليوم دون تغيير يذكر.

عندما نتأمل كل الحركية التي تطبع ربوع العالم، نتساءل بدهشة وبشجاعة أيضا: لماذا نقوم بكل ذلك؟ لماذا نصنع الأسلحة؟ لماذا نهرع إلى متاجر الموضة كلما عرضت إشهارا جديدا لمنتوج جديد؟ لماذا ننشر صورنا ولحظاتنا الحميمة في مواقع التواصل الاجتماعي؟ لماذا تحتل دول دولا أخرى؟ ما الذي نريده من كل ذلك ومن كل ما سيأتي؟ وهل يمكن للوجود أن يسقط إذا غابت كل هاته الأشياء..؟الخطأ الكبير الذي نقترفه، يتجلى في الاعتقاد بتطورنا وإن نسينا أنه تطور يُعَقِّدُ الأشياء أكثر دون التخلص من معضلاتها. والمشكلة الأكبر حينما نتهم أجدادنا بالبدائية بكل ثقة في النفس. لكن أكبر بدائية هي التي نعيشها حيث لا عنوان لهذا الوجود، ولا معنى لحياة بدون معنى.

 

مواضيع ذات صلة