نهاية القيامة الآن

هادي معزوز

من شروط قراءة هذا النص:

ـ عدم التسرع قبل الحكم لأن في النص هذيان.

ـ ضرورة قراءة ما بين السطور.

ـ النص مثير للغثيان.

ملحوظة: كل تشابه بين الأحداث ليس من وليد الصدفة، لكنه لا يعبر بالضرورة عما يقع وإن كان عكس ذلك..!

 

إليكم النص...

... السماء بعيدة جدا عن دنيا الناس، بعيدة أكثر عنه وهو الذي قضى كل حياته مرتبطا بها، مرتبطا بفصولها الأربعة ودورات أفلاكها ونجومها التي لا يعرف عنها سوى ما يحكيه الأجداد.. تبقى السماء بعيدة بزرقتها المستفزة نهارا، بسوادها المنفصم ليلا.. آه من سماء الذي مضى بلون بني داكن شتاء، وزرقة خجولة تتخللها سحب بيضاء نظيفة ربيعا، وزرقة مشعة متصالحة مع نفسها صيفا، كانت حينها البساطة عنوانا لما يقع، لكن خطأ البساطة يكمن في معرفة سِرٍّها بعد أن ينتهي أمرها. فهل ستَتَبيَّنُ له بساطة زمنه بعد أن ينتهي كي يحل محله زمن آخر؟ وحده الله يعلم تفاصيله الرتيبة منها والمُشوِّقة. لكن ماذا عن الأرض؟

... الأرض استحالت جسد بائعة الهوى: جسدٌ مُتاح للجميع وليس لأحد، في متناول من يدفع أكثر لكن دوره منحصر فقط في بيع المتعة دون متعة، وقد كانت سلعة البائع منذ بداية البيع غير مغرية له، سواء كانت ثوبا أو سلاحا أو تاريخا أو جسدا أو أمة، فالمهم هو الربح وشرطه رمي الأخلاق عرض الحائط واستغلال الدين. الأرض لم تعد أرضا كما كانت عليه في السابق، لون التراب القاتم يثير الرغبة في القيام بشيء ما لكنه غير معروف بتاتا: في الحفر مثلا دون الحاجة إلى الحفر، أو في بناء بيت رغم معرفة مسبقةبندرة المياه، أو في الجلوس فوق التراب الشاحب العطش وانتظار شيء ما، شيء ينتظره الجميع بمن فيهم غودو الذي خرج من رائعة صامويل بيكيت وها هو اليوم معنا يقتسم ما تبقى من الأشياء.

... والأرض لعنة لمن يملك الفتات منها، فمن يملك الأرض يملك السماء، لكن السماء تبتعد عن الذي يرجوها، وتقتربإلى درجة العناق المشتهى من الذي لا يطلبها، تلك لعبة دأب عليها الناس منذ وجدوا على البسيطة، وسِجن الإنسان الطلب تلو الطلب، رجاءٌ إما أن ينتهي برجاء آخر حين تحقق الأول، أو فقدان أمل في الرجاء الأول وانكسار متعثر تشوبه العديد من الخيبات. كل شيء يبدأ من الأرض ثم يعود إليها عن طريق السماء.. والسماء امتداد لهذا العالم السخيف الذي يتصارع حوله الجميع، أما ميثولوجيا الأبطال فتتعلق بنشر العدل في العالم بعدما امتلأ جورا. الكل يتصارع من أجل ذلك، والكل يتهم الكل بالشر، والكل يسعى إلى مصالحه الخاصة بينما الآخر عدو توجب التخلص منه حينما تتاح فرصة الانقضاض.. فلماذا كل هذا العمى؟ ألا يوجد منا راشد رشيد ينهل من إرث اليونان الذي أصابه الصدأ رغم أنه ليس من حديد؟ وحدهم اليونان من فطنوا إلى لعبة العالم المقيتة فأمسكوا السماء والأرض معا، ووضعوهما في توليفة واحدة، كل شيء يأتي منهما معا دون تراتبية تذكر، أما اليوم فقد بات العالم يغلي لغرض ما.. بسبب الهيمنة؟ نعم. بسبب الاعتقاد بالتفوق؟ طبعا. من أجل الربح؟ بطبيعة الحال. لن يحكم كل العالم أحد، لتأخذوا العبرة من الإسكندر الأكبر وهولاكو والقيصر ونابليون وهتلر وستالين... لكن ما ذنب الذين لا يريدون اللعب ولا يريدون تعلمه؟ إنهم حطب هذه النار.

كان يعدل لفافة سيجارته الثانية التي أصابها التلف حينما فاجأ زوجته بعدما لعب به الدخان فأرداه حكيم زمانه البائس ـ وأي زمان قيل فيه المجد خلال حاضره وتلك كانت فطرة الإنسان التي جُبل عليها منذ بدء السليقة؟ ـ سأبيع كل ما أملك..! همهمت قائلة وكانت هذه حال قريتنا النائية حينما يعم الجفاف وتختلط الأخبار الصحيحة بالزائفة، فيصبح الرجال على أهبة الانقضاض والصراخ والضرب لسبب بسيط جدا كالعطس مثلا أو زم الشفتين أو أحلام الليل التي يرافقها الهذيان... همهمت تفاديا لما لا يحمد عقباه: ـ وما الذي تملكه كي تبيعه؟ قال لها متأهبا: ماذا قلت أيتها العاهرة؟ أجابته مرتعدة الفرائص: قلت لك الأمر أمرك يا رجل. ضرب كفا بكف ثم قال بحدة: سأبيع الزاملة ـ البغلة باللسان العربي ـ فقد قال أجدادنا الأوائل أنه حينما يعم القحط ويختلط الحابل بالنابل تلد الزاملة فنكون بذلك على أهبة العلامات الكبرى للساعة وقيام القيامة..! تنحنح وأضاف: ـ لا أريد أن تكون سُبَّة في جبيني فأتعرض للرجم وقد خرج العار من بيتي.. لم تجبه خوفا من رد فعله طبعا. على الأقل ليست مستعدة لأن تُبرح ضربا بعدما أصبح جسدهامنهكا من فرض الجوع. فأي بأس هذا؟

ولما لم تجبه قال لها وهو يشعل لفافته الثانية: ـ سنرمي الرضيع في الخلاء فقد..! لم يكمل جملته حتى انتفضت وهي تصرخ: ـ أية مصيبة ألمّت بي يا ربي؟ هل يهون عليك ذلك حينما ترمي فلذة كبدك كي تنهشها الكلاب الضارية من فرط جوعها؟ ثم بدأت تبكي وتلطم. فقال لها بهدوء غريب ومستفز: ـ اسكتي يا امرأة فيسمعنا الجيران، ثم إنه لا يوجد لدينا ما يكفي من الطعام. الحرب على الأبواب وشحُّ السماء ترينه بعينيك.. حاكم القرية ينتظر ما يجب أن أقدمه إليه كتعويض عن خسارة الموسم الماضي، ماء الشرب أصبح ممزوجا بالعلق.. أشجار الزيتون التي كنا نغطي بها جوعنا ذبلت وتآكلت.. ماذا تبقى لنا أيتها العاهرة؟ ارتمت على الرضيع الذي يتضور جوعا ثم قالت في تحد: ـ إما نحن الاثنين أو لا أحد..! صفعها صفعة مدوية وأمسك فمها كي لا تصرخ لأنه لم يعد لها ما تخسر، فتطلق ولولاتها الممزوجة بفضيحة رمي الرضيع، ولما لم تبد منها أية مقاومة قال لها مضيفا إلى الجرح جراحا لا يمكن أن تندمل: ـ أنت السبب يا ابنة العاهرة! من الذي أنجبه أنا أم أنت؟ أنت التي أنجبته وحملت به في بطنك القذر.. جحظت عيناها من شدة الاختناق فأمسك بقبضة يده على فمها وترك لها مساحة التنفس من الأنف، فهم من تقاسيمها المضغوطة أنها ترجوه وقد أعلنت استسلامها، ولما تأكد من ذلك صعد فوقها ثم بدأ بصفعها يمنة ويسرة وهو يقول: ـ ما رأيك في بيع الزاملة ورمي الطفل في الخلاء؟ امتزجت لديها مشاعر رهيبة بين الحقد والإذعان والتربص والتكالب والتحسر والندم والألم والتواطؤ... ثم تأوهت من شدة الضرب الذي لا يجب أن يعقبه الصراخ وإلا فسيكون القتل مصيرها. بينما أمسك وجهها وفتح فمها ثم بصق فيه.. اقترب من أذنيها وهمس قائلا: قولي أنني على صواب وإلا... ولما بدت عليها الموافقة غير المشروطة استسلمت باكية فأيقظ لديه شهوة امتطائها، ثم نزع عنها أسمالها وانغمسا في بحر اللذة الذي يختلط فيهالألم بالنشوة. كانت تمزج حقا بين الشعور بالضرب الذي استحال بالنسبة إليها عنوانا على فحولة زوجها، وبين الألم الذي يحمل النقيضين: المتعة والألم.. يا له من منظر تقشعر له الأبدان: طفل يبكي، وأم تنتظر نشوتها، وأب يعتقد أن الفحولة والشرف بين الفخذين.. ثم انتهيا دون أن ينتهي الطفل من البكاء، حينها عادت إلى واقعها الأليم رافضة اقتراح الوالد الواقعي..! وبعدما استرد أنفاسه فاجأها قائلا: ـ لقد اتفقت مع حاكم القرية أن تقضي معه أياما تؤنسي وحدته وتنفذي كل أوامره خاصة الشبقية منها، لست متفقا مبدئيا لكنه قوي ولست مستعدا كي أظهر عنترية فارغة ستجني علي وعليك..

بماذا أجابت؟ لا أحد يعلم بمن فيهم كاتب هذه السطور..!