الآلاف من الكفاءات المغربية هاجرت إلى الخارج، وكثير ممن بقي منها في بلاده يبحث عن الفرصة للرحيل. ما هي أسباب هذا الوضع في بلد مستقر أمنيا وسياسيا؟ وماذا يخسره المغرب جراء رحيل طاقاته القادرة على دفعه نحو الأمام؟
"لم أختر فرنسا.. بل فرنسا اختارتني"، هكذا يقول إمام الشطيبي، مهندس شاب مغربي يعيش في فرنسا منذ مدة، في حديث مع "مهاجر نيوز". هو واحد من آلاف المهندسين الذين انتقلوا إلى الخارج بعد تخرجهم من مدارس ومعاهد مغربية، في إطار "هجرة الكفاءات" التي يعترف المسؤولون المغاربة بارتفاع حدتها في السنوات الأخيرة، وهي الظاهرة التي تصب في مصلحة دول الاستقبال، خاصة أوروبا وكندا، التي تستفيد من طاقات مغربية، دون أن تصرف أيّ مبالغ في تكوينها.
حصل إمام على شهادة البكالوريا في العلوم الطبيعية، وبعدها شهادة جامعية من المدرسة العليا للتكنولوجيا بالدار البيضاء، ثم شهادة مهندس دولة في المعلوميات من المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بوجدة عام 2011. عمل بعد تخرجه لمدة سنتين في المغرب، لكن بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية، خفضت عدد من الشركات الفرنسية في المغرب نفقاتها، ما أدى إلى تراجع نسبة مشاركة المهندسين والتقنيين المغاربة في مشاريعها، ودفع الشطيبي، وعدد من زملائه، إلى القبول بعروض للعمل أقل أو لا تتناسب مع مؤهلاتهم.
بيدَ أن دخول شركة فرنسية جديدة إلى المغرب، فتح المجال أمام إمام للعودة إلى عمل يوافق تكوينه في الهندسة، وبعد فترة من العمل معها، انتقل إمام مع الشركة ذاتها إلى فرنسا حيث يعمل أغلب الوقت، مقابل بضعة فترات من السنة يكلف فيها بمهام داخل المغرب.
عكس الكثير من الكفاءات المهاجرة، التي ترفض العودة إلى المغرب، حتى ولو وجدت فرصاً تناسب مؤهلاتها، فإمام يؤكد أنه مدين لبلاده حيث درس: "لا زلت أبحث عن فرصة مناسبة للعودة إلى أرض الوطن، فأنا مغترب اضطراراً.. عودتي إلى بلد مسألة وقت فقط".
أرقام مقلقة
سبق لوزير التربية الوطنية والتعليم العالي في المغرب، سعيد أمزازي، أن اعترف، قبل أشهر، في تصريحات نقلتها عنه صحيفة "ليكونومسيت" الناطقة بالفرنسية، أن أكثر من 600 مهندس مغربي يغادرون بلدهم كل عام، وهو ما يعادل رقم جميع خريجي أربعة مدارس عليا للهندسة في المغرب خلال عام واحد، وفق المصدر ذاته.
رقم لا يظهر مبالغاً فيه، فالأطباء كذلك يهاجرون بالآلاف، إذ نقلت عدة صحف مغاربة ملخصاً لدراسة أنجزها المجلس الوطني للأطباء في فرنسا، بيّنت أن عدد الأطباء المولودين في المغرب والمزاولين للمهنة في فرنسا يصل إلى 6150، جلّهم يعملون بشكل دائم. وتعد فرنسا من الوجهات المفضلة للأطر المغربية لأجل العمل، ويعود ذلك لأسباب متعددة منها تدريس التكوين العلمي العالي في المغرب بالفرنسية.
وطلب "مهاجر نيوز" تعليق محمد يتيم، وزير العمل والإدماج المهني في المغرب، حول موضوع هجرة الكفاءات، خاصةً أن الوزير تحدث عن الموضوع في المنتدى المغربي-البلجيكي الذي نُظم قبل أسابيع في الرباط. بيدَ أن ديوان الوزير طلب الإحالة فقط على كلمة هذا الأخير في المنتدى، حيث قال إن هجرة الكفاءات تبقى "إشكالية دولية تطال بدرجات متفاوتة جميع الدول"، وإنه بات ضروريا "التصدي للأسباب العميقة للهجرة عبر تنمية شاملة تستهدف المناطق المعروفة بتوليدها المكثف للهجرة".
وتقول دراسة حديثة أنجزها موقع rekrute (مختص في مجال التشغيل) حول المغاربة أصحاب الشهادات العليا (حاصلين على شهادة الإجازة –البكالوريوس- فما فوق) إن 91 من القاطنين منهم في المغرب، يرغبون في الهجرة إلى كندا (37 بالمائة) أو فرنسا (25 بالمائة) أو ألمانيا (12 في المائة) أو دول أخرى، رغم أن نسبة كبيرة منهم تشتغل مسبقا. بينما أوضح المهاجرون سلفاً، حسب الدراسة ذاتها المنشورة عام 2018، أن الرغبة في تطوير مسيراتهم المهنية كانت السبب الأول للهجرة. وفي الوقت الذي أكدت فيه أن 74 في المائة من الكفاءات المهاجرة أنها ترغب يوماً بالعودة، قال 44 في المائة من غير المهاجرين إنهم يرغبون بالبقاء في بلدان الهجرة مدى الحياة.
كما يتوفر "مهاجر نيوز" على آخر مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية لعمليات الإحصاء)، تقول إن معدل البطالة في صفوف حاملي الشهادات الدراسية العليا يصل إلى 23 في المائة من مجموعهم. وتؤكد المندوبية أنه كلما ارتفع مستوى التكوين، كلما ارتفع حجم البطالة، في بلد يتأرجح فيه معدل البطالة الرسمي ما بين 9,5 إلى 11 في المائة خلال السنوات الأخيرة (يقول مراقبون إن الرقم أعلى).
ماذا يخسر المغرب؟
باستثناء الفئة التي درست في المؤسسات الخاصة، فالدولة المغربية هي من تحملت تكاليف دراسة الكفاءات المغربية التي هاجرت بعد تخرجها أو تفكر في الهجرة، ويعد انتقال هذه الكفاءات للعيش في بلد آخر خسارة مادية للمغرب، رغم أن الدولة تحاول الموازنة في هذه الخسارة بالاستفادة من كمّ التحويلات المادية التي تصل من المهاجرين المغاربة (تشكّل المصدر الأول للعملة الصعبة)، فضلاً عن تخفيض أعداد العاطلين بالبلاد وبالتالي خفض الاحتقان الاجتماعي، خاصة أن المطالبة بفرص للعمل تبقى من أكبر المطالب المرفوعة في الاحتجاجات التي شهدتها أكثر من مدينة مغربية.
ويشير الباحث في الاقتصاد رشيد أوراز، في حديث مع "مهاجر نيوز"، إلى أن المغرب يخسر "موارد بشرية يمكن أن تساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبفقدانها يفقد المغرب جزءاً من رأسماله البشري، وهو عامل مهم من عوامل الإنتاج في الاقتصاديات الحديثة". ويتابع أوراز: "تتصارع الدول وتتنافس على جذب أفضل الكفاءات، ولا يعقل أن تضيع الكفاءات التي ننتجها محلياً بسبب الهجرة التي لا تكون في العادة خياراً رئيسياً لتلك الكفاءات، بل يفرض عليها لأنها لا تجد الظروف الملائمة هنا، أو أن المحفزات على البقاء في البلاد قليلة أو منعدمة".
ويشدد أوراز على أن الربط بين المناخ العام السياسي وبين المستويين الاقتصادي والمعيشي يعدّ من المحددات الرئيسية للتحفيز على الاستثمار والبقاء في البلاد، حسب رأيه، مضيفاً أن الدولة "أخفقت في كبح جماح ظاهرة هجرة الأدمغة لأنها تلكأت في الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي يعطي الأمل للمواطنين للاستمرار هنا، ما يجعلهم يبحثون عن وجهات أخرى أكثر أماناً واستقراراً".