مع توالي خطبه، يتطرق الملك بشكل منتظم للجهوية المتقدمة. يبسط مزاياها والانتظارات المأمولة منها. بيد أن هذا الموضوع لا يتم تناوله بالوضوح اللازم. وتظل الجهوية غائبة عن النقاش العمومي، ومفهوما مبهما عند عامة الناس، كما أنها، وبصراحة، ليست لها أية جاذبية بالنسبة لوسائل الإعلام. نتحدث عن الجهوية الموسعة كما نتحدث عن بناء دولة الحق والقانون، نتحدث عنها كمفهوم مجرد وبعد عن الواقع ، مازلنا نحلم له.
وفي هذا خطأ في التقدير، فالجهوية حقيقة ثابتة، وتوجد في قلب الإصلاح الدستوري، وتؤطرها العديد من القوانين التنظيمية والعادية.
نشرت مجلة "تيك كيل" (مع عددها 788) كتيبا جد مفيد أنجزته مجموعة التفكير المغربية "طفرة" (Tafra) حول هذا الموضوع. يفسر بدقة وبطريقة بيداغوجية الإطار القانوني للجهوية الذي دخل حيز التنفيذ، ومختلف مستوياته والصلاحيات التي يتمتع بها كل مستوى، كما يتناول بتفصيل مواصفات الفاعلين فيها.
يصبح من السهل، على ضوء هذا العمل غير المسبوق، إدراك أن الطريقة التي يتم بها إعداد السياسات العمومية في المغرب تخضع لتحولات هادئة ولكن عميقة. إننا نعلم علم اليقين أن الاستراتيجيات العمومية الكبرى التي يتم إعدادها بالرباط، في دواوين الوزارات، والتي تطبق على مجموع التراب الوطني، لم يحالفها النجاح دوما، فالسياسات القطاعية مثلا أخفقت في تحقيق أهدافها: المساهمة في تنمية البلاد، وخاصة من خلال خلق فرص الشغل.
أما الجهوية فتقترح نموذجا تنمويا مختلفا- ومن المؤسف أنه لم يتعامل معها أي من المسؤولين من هذا المنظور- يعول فيه على الجهات لتقديم حلول يتبناها المنتخبون المحليون، الذين يفترض فيهم مبدئيا امتلاك المعرفة الميدانية، وبالتالي القدرة على اقتراح المشاريع الأكثر ملاءمة لحاجات السكان.
على الورق إذن- وبغض النظر عن قضية الصحراء خاصة وأن الجهوية يتم استحضارها بانتظام فقط للحديث عن مخطط الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب- يبدو هذا التحول في هندسة الدولة حاملا في طياته للكثير من الآمال.
وكما العادة يلزم الكثير لتجسيد تلك الآمال. فالجهوية كما هي مطبقة الآن تطرح العديد من الأسئلة حول صلاحيات، وبالتالي مسؤوليات، مختلف المتدخلين. فوفقا لمنطق ازدواجية القرار، تتألف الهندسة الحالية للجهوية من المنتخبين (رؤساء الجهات والمستشارين الجماعيين) من جهة، والمعينين، أي رجال السلطة (الولاة، العمال، البشاوات، القياد) من جهة ثانية.
ويوضح العمل الذي أنجزته "Tafra" أن المنتمين للصنف الأول ليسوا دائما الأكثر جاهزية والأكثر كفاءة لتدبير مشاريع التنمية. على عكس المنتمين للصنف الثاني الذين يثبتون نجاعتهم ميدانيا.
بعبارة أوضح، يشكل النقص في النخب المحلية بالجهات الـ12 للمملكة عائقا كبيرا لتقدم الجهوية. وهذا يعطي للنظام العذر لممارسة تدبير سلطوي.
فمن سيحمل هذه الجهوية على كاهله؟ لعل الدولة ستربح إن هي تخلت عن هذا المنطق القائم على التدخل المفرط ، وبادرت بدل ذلك إلى تشجيع بروز الكفاءات، وقامت بإعادة النظر في شبكة الأجور بالوظيفة العمومية، ومكنت الجهات من الموارد البشرية والمالية التي تحتاجها. إن تم كل هذا في إطار الشفافية، ومن دون تدخل خفي، غير دستوري، فّسيكون للمغرب، ربما، الملامح الأولى لنموذج تنموي جديد.