تجاوزت قيمة المبالغ المرصودة لصندوق تدبير مكافحة تداعيات فيروس "كورونا" المستجد بالمغرب عشرين مليار درهم، منذ أمر الملك محمد السادس بإحداثه لمواجهة انعكاسات هذه الجائحة العالمية، سواء تعلق الأمر بتأهيل قطاع الصحة في المغرب، كي يكون قادراً على احتواء تداعياتها الصحية، أو التخفيف من انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية على المواطنين والمقاولات.
"تيلكيل عربي" طرح على مجموعة من المسؤولين والفاعلين في قطاع الصحة، من أهل الاختصاص في الطب ومن مروا على رأس مسؤولية الصحة في المغرب، سؤالا مركزيا من بين أسئلة أخرى، حول: هل يكون هذا الصندوق طوق نجاة لتأهيل قطاع الصحة في المغرب؟
خصصت الحكومة في قانون المالية للعام 2020، ميزانية قدرها 15 مليار و 334 مليون درهم و 570 ألف درهم، تضمن مبالغ نفقات الموظفين والأعوان، بقيمة 10 ملايير و908 مليون و500 ألف درهم، ومبلغ 4 ملايير و426 مليون و70 ألف درهم للمعدات والنفقات المختلفة، كما منحت القطاع 4 آلاف منصب شغل، لكن هل هذا كاف، في السياق الحالي؟
يرى أحد من مروا على رأس المسؤولية الوزارية في قطاع الصحة بالمغرب، في حديث لـ"تيلكيل عربي"، أن الأنظمة الصحية عبر العالم، سوف تجعل من تفشي فيروس "كورونا" محطة من أجل إصلاح سياساتها الصحية، والانتباه إلى عدم إضعاف المنظومة الصحية العمومية والمستشفى العمومي وتثمين الموارد البشرية.
نفس الأمر يذهب إليه الطبيب ورئيس حركة "أنفاس" عثمان بومعليف، ويتوقع، في تصريحه لـ"تيلكيل عربي"، أنه "إضافة إلى محو الآثار الاقتصادية لبعض القطاعات، بفضل مليارات الدراهم التي ضخت في الصندوق، يمكن أن يشكل هذا الأخير طوق نجاة لقطاع الصحة، ويعيد هيكلته بعمق بشكل يمكن من ولوج أفضل للخدمات".
وأمام كل هذا، هناك من يطرح فكرة الصندوق أنشئ بأمر ملكي لمواجهة جائحة "كورونا" المستجد حصرا، خاصة مع وجود خصاص كبير في مجموعة من الإمكانيات التي تسخر في العالم لمواجهة تفشيه وعلاج من يصابون به.
في هذا السياق، قال طالب الطب أيوب أبو بيجي، إنه وحسب المعرفة بخصوص جائحة "كورونا" الدول التي تفشى فيها بشكل كبير اضطرت لتعبئة ميزانيات ضخمة، لذلك يجب أن يركز هذا الصندوق على هذه المهمة اليوم.
وأوضح طالب الطب، في حديثه لـ"تيلكيل عربي"، أنه "من ناحية تدبير الجائحة، إنشاء الصندوق إشارة جيدة ومبادرة في محلها، لمنع تفشي الفيروس، ويجب أن تذهب أقساط مهمة منه لتحسيس وتوعية الناس، لأن هذا هو المدخل الأول للقضاء على انتشا الوباء في أوساطهم. لا يمكن استثمار مليارات الدراهم اليوم وفي هذه اللحظات العصيبة، دون توعية الناس بخطورة الأمر. سوف ينهار كل شيء إن لم تصلهم بقوة فكرة أن محاربة الفيروس مسؤوليتهم الشخصية".
ويقدم المتحدث ذاته المثال بالأنظمة الصحية الأوروبية، والتي، بحسبه، لم تقو على الصمود كثيراً أو احتاجت لتعبئة موارد إضافية ضخمة، رغم أنها أنظمة صحية متطورة وترصد لها ميزانيات ضخمة سنويا، ومدعومة بالبحث العلمي في مجال الطب.
حاجيات في الموارد البشرية
سنوياً، تخصص الحكومة ما مجموعه 4000 منصب شغل للصحة، وهو رقم يبقى قليل جداً باعتراف وزراء صحة سابقين، والذين يقرون أيضاً بأن عدداً من مناصب الشغل التي تفتح لا تستقطب الأطباء إلى القطاع العام.
لهذا يرى الطبيب المتخصص في الأمراض التنفسية، وهو رئيس العصبة المغربية لمحاربة داء السل، جمال بوزيدي، أن "إصلاح منظومة الصحة يبدأ من الموارد البشرية". كيف؟
يرد بوزيدي، في حديثه لـ"تيكليل عربي"، بأن "الأطباء في القطاع العام يحتجون لإعادة النظر في أوضاعهم، لأن الاهتمام بهم ومنحهم ما يستحقون مقابل عملهم سوف يجعلهم يشتغلون بعطاء أكبر".
في المقابل، يشدد المتحدث ذاته على أن "الأطباء، بدورهم، عليهم الالتزام بالثماني ساعات التي يشتغلون خلالها في الطب العمومي، والتخلي عن عقلية البعض التي توجه المرضى نحو الطب الخاص والمصحات، رغم توفر المستشفيات في كثير من الأحيان على المعدات التي يحتاجونها من أجل الفحص أو التطبيب أو إجراء جراحة أو تقديم الإسعافات الضرورية".
نفس الشيء يؤكد عليه المصدر الذي مر على رأس المسؤولية الوزارية في قطاع الصحة بالمغرب، ويقول إن "تأهيل الموارد البشرية مهم جداً، ويجب التفكير في تحفيزات مادية وتعويضات ومنح إضافية لهم في هذه الظروف العصيبة، لأنهم، الآن، هم من في الميدان".
ويرى المصدر ذاته، الذي شدد وألح على عدم ذكر اسمه، أنه حان الوقت "لإصدار قانون تنظيمي في قطاع الصحة متعاقد حوله، يهم إصلاح أوضاع الموارد البشرية من خلال توافق وطني، مع ضمان التكوين المستمر في المهن الطبية بشكل عام".
وحول الموارد البشرية أيضا، ماذا يقول أطباء المستقبل عن هذا الأمر؟ الجواب على لسان من كان في الصفوف الأمامية لاحتجاجات طلبة الطب العام الماضي، وهو أبو بيجي، والذي يؤكد على أن وصول موارد بشرية مؤهلة إلى قطاع الصحة العمومية يفرض "توفير مجموعة من الإمكانيات الضرورية لهم".
ويوضح طالب الطب: "بحكم الحالة التي نعيشها. نحن طلبة الطب جزء من المنظومة، ويجب أن نكون في الصف الأمامي اليوم لمواجهة الفيروس، أولاً، لكن نحتاج للتكوين، وبتوفير عدد كاف من الأسرة بالمستشفيات، سواء للطلبة أو المرضى، وانخراط المستشفيات الجامعية بقوة في هذا الأمر، والإسراع بالتغييرات التي تعرفها الكليات، لأننا نحتاج المزيد في تدريس الطب، مع الرفع من عدد الأساتذة، لأنه قليل مقارنة مع عدد الطلبة، ما يترك خصاصا كبيرا في التكوين".
ويعتبر أيوب بيجي أن "الميزانية السنوية للوزارة غير كافية لضمان طبيب في المستوى للمواطن، ولا تتطور بنفس حجم تطور التحديات كل سنة".
الطبيب ورئيس حركة "أنفاس" عثمان بومعليف، بدوره يؤكد على أن "أهم مدخل لتأهيل قطاع الصحة، هو التركيز على الاستثمار في الموارد البشرية، لأنها هي التي تشتغل في الميدان".
الصحة.. "قطاع سيادي"!
أمام تسارع الأحداث في الدول الأوروبية، وقرارات عدد من الدول، من بينها بريطانيا، التي أعلنت وضع الدولة ليدها على المصحات الخاصة، وتسخير جميع إمكانياتها لمواجهة تفشي فيروس "كورونا" المستجد، تعالت أصوات في المغرب تطالب باستعادة الدولة لدور مركزي في قطاع الصحة، لكن كيف يمكن أن يتم ذلك، في ظل الهشاشة التي يعيشها القطاع باعتراف المسؤولين فيه ومختلف الفرقاء بالقطاع؟
الحل، حسب بومعليف، هو "ضخ 10 ملايير درهم اضافية سنوياً عبر آلية تضامنية، تمكّن قطاع الصحة من حوالي 28 مليار سنويا، وهي رافعة ستمكن، لا محالة، من إعادة ثقة المواطن المغربي في منظومته الصحية".
ويضيف "جائحة كورونا أظهرت للجميع في العالم أن الصحة قطاع سيادي وأول خط للأمن والدفاع عن حوزة الأوطان".
بوزيدي، من جانبه، يحسم موقفه في هذا الجانب، ويرى أن الأموال التي سوف ترصد لتأهيل قطاع الصحة في الصندوق الذي أمر الملك بإنشائه، يجب أن تجعل من "المستشفيات العمومية والعسكرية أساس المنظومة الصحية في الدولة، وأن تصبح تنافسية وتسخر لها كل الإمكانيات".
ويطرح رئيس العصبة المغربية لمحاربة الداء السل أنه "في الدول الغربية، تتفوق المستشفيات العمومية والعسكرية على المصحات الخاصة، وأطرها هم من يتصدرون البحث العلمي ووضع السياسات الصحية، والمسؤولون هناك يثقون في الصحة العمومية أكثر من الخاصة".
المتحدث ذاته قدم مثالاً بمجال تخصصه، ويقول: "مثلا الصحة العمومية في المغرب هي التي قادت وتقود الحرب ضد داء السل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن منظمة الصحة العالمية تأخذ تفشي هذا الداء بين مواطني الدول كمعيار أساسي لتقييم الأداء الصحي للدولة سنوياً، لأنه داء يصيب الفقراء بالدرجة الأولى".
وبحكم مروره من العمل البرلماني، يكشف بوزيدي أن "وزير الصحة الأسبق الحسين الوردي دشن بالفعل مشروعاً ضخماً لوضع المنظومة الصحية العمومية على السكة الصحيحة، ومنها مكانة السيادة، لكنه ووجه بلوبيات أجهضت هذا المشروع".
ويتمنى المتحدث ذاته أن يكون الصندوق الذي أمر الملك بإنشائه انطلاقة أخرى بحكم الأموال التي رصدت له، لإرساء نظام صحي عمومي قوي.
أين يمكن الاستثمار؟
حسب المسؤول الذي مر على رأس وزارة الصحة، فإن الأولية اليوم هي لـ"توفير التجهيزات الطبية في المستشفيات، والرفع من عدد أسرة الإنعاش، وتجهيز مستشفيات قادرة على استقبال حالات إصابات مؤكدة بفيروس كورونا المستجد، إن تطورت الأمور".
ويضيف "الآن يجب أن تركز هذه الموارد على الحاجيات الضرورية، المستلزمات الطبية الخاصة بالتشخيص والمستلزمات الطبية الوقائية للعاملين في المجال الصحي، لأنها مرتبطة بالسوق الدولية، ونحن نعرف الارتباك الحاصل في تصنيعها والتزود بها. وهناك دول أصبحت ترفض تصديرها حتى لجيرانها في أوروبا بحكم حاجاتها المرتفعة".
كما يجب التركيز، حسب المتحدث ذاته، على تأمين حاجيات البلاد من الأدوية المرتبطة بالأعراض، والتي تبقى، بدورها، مرتبطة بالسوق الدولية، خاصة المواد الأولية وجلها تصنع بالصين".
ويقول الوزير السابق "ربما نتوفر على أرصدة ضخمة، لكن لن نجد من أي نستورد ما نؤهل به القطاع خلال هذه الفترة لمواجهة تداعيات هذه الجائحة".
لكن أمام كل هذا، يتخوف المغاربة من قلة أسرة الإنعاش في مختلف المستشفيات والمراكز الصحية والمستشفيات العسكرية، والتي لا يتجاوز عددها، حسب تصريح رئيس الحكومة 1640 سريرا. تخوف لدى المغاربة طرحه "تيلكيل عربي" على المسؤول الذي تولى حقيبة وزارة الصحة سابقاً.
وكان جوابه "ليس هناك مشكل في الطاقة الاستيعابية، ويمكن استعمال مؤسسات أخرى، الأهم هو توفير كل المستلزمات الطبية".
وفي ما يخص المدى البعيد، يقول المتحدث ذاته "هناك سياسة مسطرة يجب التسريع بإنجازها، تتضمن بناء مستشفيات جامعية، منها ما هو في طور الإنجاز، وشبكة للمراكز الصحية ومستشفيات إقليمية، والتسريع بإنشاء كليات الطب والمعاهد. وأؤكد لكم أن الإصلاح انطلق منذ مدة، وكما قلت هناك مشاريع بدأت وأخرى يجب أن يسرع إنجازها، وفي حدود 10 سنوات سوف يكون لنا ما يكفي في النظام الصحي العمومي".
طالب الطب أيوب بيجي يؤكد بدوره على ضرورة الاستثمار في التجهيزات الطبية والرفع من عدد أسرة الإنعاش وعدد المستشفيات التي يمكن أن تستقبل حالات إصابات مؤكدة، خلال هذه المرحلة، وكل تطوير مستعجل، حسب بيجي، هو ربح في المستقبل.
ويقترح الطبيب ورئيس حركة "أنفاس" بومعليف تأهيل القطاع الصحة واستثمار هذه اللحظات العصيبة بشكل إيجابي، و"جعل الصندوق طوق نجاة لقطاع الصحة. يعيد هيكلته بعمق بشكل يمكّن من الولوج إلى أفضل الخدمات، وتعميم التغطية الصحية، وتجهيز أفضل للمستشفيات العمومية، وتعزيز منظومة استباقية للمحاربة الوبائية، وتقوية الصحة الوقائية".
ويضيف "يمكن لهذا الصندوق، إذا ما تم الاحتفاظ به في السنوات المقبلة، كما تم ذلك مثلا مع صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، أن يشكل آلية تمكّن الدولة من تجاوز المعيقات المادية لتمويل الصحة وتجويد خدماتها".
كما يقترح بومعليف أن تكون "الأولويات في المغرب تجاوز التفاوتات المجالية، وتقوية منظومة التكوين الطبي والبحث العلمي البيوطبي، ورقمنة القطاع".
ويشدد على ضرورة التفكير في "جعل صندوق تدبير جائحة كورونا دائما، كآلية قابلة للتحقيق، كلما كانت الحاجة إليها، وطبعا بصيغ مختلفة، خاصة إذا تم تمويلها بمساهمة إجبارية عادلة للجميع وفق روح الفصل 40 من الدستور المغربي"...