أقدمت فرنسا على خلع محمد الخامس في 20 غشت 1953، لأن السلطان المغربي كان يدافع عن مطلب استقلال البلاد. في كتابه "جوان.. المارشال الإفريقي" يعود المؤرخ الفرنسي غيوم دونغلو إلى الأرشيف الفرنسي الخاص بفترة الحماية ليرسم "بورتريها" لهذا العسكري الذي لعب دورا مركزيا في عزل محمد بن يوسف. وتكشف هذه الوثائق التي لم يسبق نشرها، خبايا تنحية السلطان، وتؤكد مسؤولية المقيم العام ألفونس جوان، وتصف موقف بن يوسف وكيف تقرب من الوطنيين لوضع حد لعهد الحماية.
حسن حمداني
مباشرة بعد وفاة السلطان مولاي يوسف في 17 نونبر 1927، اعتلى ابنه محمد بن يوسف، الذي لا يتجاوز عمره 17 عاما، العرش في اليوم الموالي. هذا التتويج كان نتيجة لصراع مرير جرى أثناء مرض مولاي يوسف بين مجموعة من المسؤولين الكبار في نظام الحماية. فقد كان إدريس، الابن الأكبر للسطان الراحل، يحظى بدعم الجنرال موجان، رئيس الديوان العسكري للمقيم العام تيودور ستيغ. أما الابن الثاني حسن فقد كان يتمتع بتأييد رئيس البروتوكول، قدور بنغبريط، والحاجب التهامي عبابو. في حين كان محمد(الخامس)، الابن الأصغر يلقى دعم الصدر الأعظم محمد المقري، و سي المعمري، ومستشار الحكومة الشريفة، ولكن الدعم الأكبر جاءه من مندوب الإقامة العامة، أوربان بلون، وهو الرجل الثاني في هيكلة نظام الحماية آنذاك.
ويقول المؤرخ الفرنسي غيوم دونغلو إن "بلون" والمقري "كانا المهندسين الحقيقيين لتعيين الابن الثالث". وأورد المؤرخ رسالة تعود إلى 27 يونيو 1927، موجهة إلى وزير الخارجية الفرنسي، يدافع فيها مندوب الإقامة عن محمد بن يوسف الذي يسميه "حمادة". وقال هذا المسؤول "بناء على تقدير سي المعمري، الوفي دائما لفرنسا، وتقدير المقري، أرى أن حمادة، الابن الثالث، هو الأكثر جدارة. ولو لم يكن جديرا (بالعرش)، هل تعتقدون أن قدور (بنغبريط) المرتبط جدا بالحاجب كان سيحجم عن تقديم مرشح آخر في مستوى مرشح المعمري، الذي يشعر نحوه بحسد كبير؟ إذا كان يلتزم الصمت معكم ومعي، فلأنه لا يتوفر على أي شخص أكثر جدارة، ولأن مرشحه، إن كان لديه، ليس سوى تعبير عن مصالح خاصة لها علاقة بالتأثير السياسي. هذا بصراحة رأيي في الموضوع".
الحلقة الضعيفة
فضلت السلطات الفرنسية الابن الأصغر لأنها تعتقد أنه سيكون سهل الانقياد. وكان محمد، الذي يوصف بأنه لم يكن محبوبا من طرف والده، يحظى بدعم حليف قوي لفرنسا هو المعمري، ولم تكن له شخصية قوية مثل أخويه الأكبر منه. وفي مقدمتهما مولاي إدريس، الذي كانت تتوجس الإقامة العامة من صحته العقلية، وحذرت وزارة الخارجية الفرنسية في يونيو 1927 من مغبة اختياره: "أن يدافع المعمري عن مرشحه (أي محمد بن يوسف)، فهذا مفهوم. لكن، ووفقا لما يدرو في مجالس الأعيان، فهو الذي يبدو لهم الأفضل. الجميع يؤكدون لي هذا الأمر، والصدر الأعظم (المقري) نفسه يدعمه بقوة. إنه أصغر من الأبن الأكبر بعامين، وبأربعين يوما فقط من الابن الثاني. كل الملسمين هنا على علم بحالات الجنون التي تنتاب الابن الأكبر(مولاي إدريس) والتي دامت واحدة منها شهرين كاملين.
بناء على هذه السوابق، لنا اليقين أنه ما أن يعتلي العرش حتى تتحمس له الحشود الجاهلة من العرب والبربر، خاصة إذ علمت بخفة عقله (...) ثم ألن تجعله هذه العاهة الذهنية فريسة لأعدائنا وللمستشارين الفاشلين؟(...)
السلطان يفلت من يد فرنسا
بعدما وضعوه على العرش ظنا منهم أنه لن يثير الزوابع، أخذ محمد بن يوسف يتحرر شيئا فشيئا من السلطات الفرنسية عبر التقرب من وطنيي حزب الاستقلال. وفي العاشر من أبريل 1947، ألقى بطنجة خطابه الشهير الذي أعلن فيه رغبة المغرب الملحة في الحصول على "حقوقه الكاملة". بعد هذه القطيعة الأولى مع باريس، أخذ السلطان يرفض التوقيع على عدة مشاريع كانت تروم "الدمقرطة التدريجية للنظام" حسب تعبير الإقامة العامة. فقد كان يرى فيها بن يوسف والوطنيون مجدر ذر للرماد في العيون.
في فرنسا، تم إخضاع المواقف الجديدة للسلطان للتحليل في مجلس الوزراء الذي دعا إلى اتخاذ إجراء قوي يظهر للسلطان حزم الحكومة الفرنسية: "إن السلطان، وهو سياسي كبير، سيفهم. ويجب أن يعلم أنه يمكن خلعه من طرف فرنسا(...). إن السلطان لا يريد الإصلاح الديمقراطي. والحال أن مشكل المغرب خطير جدا: فهناك دولة قروسطية قوية وممتدة. في مواجهتنا يجود سلطان له اعتقاد راسخ في الثيوقراطية، لديه طموح، ويعتقد أنه وجد حلفاء: الجامعة العربية والولايات المتحدة الأمريكية. إنه يرفض الديمقراطية سواء كانت بلدية أو برلمانية، ويعادي حضورنا هناك. لاشك أن مصالح المخابرات منتشرة في البلاد كما تتحرك فيها الرأسمالية الأمريكية".
جوان – بن يوسف.. بوادر العاصفة
في ماي 1947، تم تعيين الجنرال ألفونس جوان مقيما عاما حتى يعيد السلطان بن يوسف إلى "رشده". ولكن بعد شهور معدودة، وبالضبط في شتنبر من تلك السنة، أخذ هذا المسؤول العسكري يشتكي من عناد السلطان، وكتب إلى وزير الخارجية آنذاك، جورج بيدو، رسالة ينعت فيها بن يوسف بالخداع وبأنه "يسعى إلى تنويمنا وربح الوقت" وعبر جوان عن خشيته من أن يأتي يوم يتخذ فيه السلطان "حلا متطرفا" و"قد سعى، من خلال الدعوة إلى التمرد والاستفزاز، إلى تكرار أحداث يناير 1944".
طبعا لم يكن لصرامة المقيم العام أي أثر، إذ واصل السلطان عرقلة آلة الحماية، واعتمد المراوغات القانونية لتجنب التوقيع على الإصلاحات التي تم إعدادها في مكاتب الإقامة العامة. وأثار موقف السلطان حنق مسؤولي الحماية كما يظهر من وثيقة تعود إلى 1948 تحمل عنوان "مواقف السلطان من الإصلاحات". وتقول هذه الوثيقة إن مشاريع الإصلاح التي تقدم إلى السلطان تخضع لمسار معقد مثل "تمريرها إلى 'لجنة مخزنية' يتم اختيار أعضائها بعناية، وهؤلاء يعطون 'ملاحظات' تكون دائما نقدية يحتمي السلطان خلفها لتجنب اتخاذ موقف".
تشويه الصورة
أمام عناد السلطان المغربي، قامت الحماية بتجريب سلاح تشويه الصورة. هكذا، في نهاية 1947، قامت هيئة غريبة تدعى "لجنة التقدم" بنشر ثلاث منشورات بالعربية تقذف فيها السلطان وأسرته. ويقول المنشور، الذي كان يروم التشويه، إنه "ابن غير شرعي"، وأن والدته "أمة" كانت في ملك تاجر إسباني في فاس. كما اتهم السلطان بـ"اختطاف النساء" لكي "يجمعهن في قصره الذي يتحول إلى مركز للانحراف". ويقول المؤرخ غيوم دونغلو إن الإقامة العامة كانت تروم بهذه المنشورات بث الشك في شرعية نسب السلطان حتى "تجعل أمر خلعه مقبولا لدى الرأي المحلي".
وفضلا عن هذه الحملة، كان الباشا الكلاوي، خلال الأربعينيات، يقدم دعمه للفرنسيين لأنهم السبب في ما أصبح عليه من قوة وتأثير. وكان السلطان يرد على هذا الباشا بفرض بروتوكول صارم كان يؤلم كبرياء الرجل حسب مذكرات لمخابرات الحماية. إذ تقول وثيقة سرية مؤخرة بـ11 نونبر 1946 أن "الباشا كان غاضبا جدا من الطريقة التي يسلكها السلطان معه. ويؤاخذ السلطان بتركه ينتظر أربعة أيام كاملة قبل أن يسمح بلقاء سمع خلاله كلاما غير لائق. فحسب الباشا، هذا التصرف يعتبر نتيجة للمؤامرات التي نسجها الوطنيون إبان غيابه عن المغرب. ولهذا، فالباشا عازم على محاربة حزب الاستقلال(...)".
وعرف التوتر بين السلطان والباشا الكلاوي أوجه في 21 دجنبر 1950. وأورد المقيم العام لوزارة الخارجية الفرنسية ما حدث بين الرجلين. وقال إن زيارة الباشا للسلطان لم تكن مجرد "زيارة مجاملة" لأن الرجل القوي انتهز الفرصة ليحذر السلطان من عواقب علاقاته بالأحزاب الوطنية "التي قد تتسبب في انقسام خطير في صفوف الشعب المغربي"، وأضاف الكلاوي أن القياد والقبائل التي توجد تحت إمرته لا ترغب في السير معه على النهج الذي رسمه "الحزب".
كان رد بن يوسف فوريا وقال لمضيفه "إن الاستقلال يمثل عنصر المستقبل الذي سيعوض البشاوات والقياد الحاليين" وبالتالي من الطبيعي أن يأخذ بعين الاعتبار "نصائحهم وتطلعاتهم". اشتد التوتر بين الرجلين وهدد الباشا القوي بشق عصا الطاعة. بعد هذا اللقاء أخبر الكلاوي الجنرال جوان بـ"القطيعة النهائية" مع القصر(...)
في ظل استمرار رفض السلطان التوقيع على القوانين، كان المقيم العام يبذل كل الجهود لكسر التحالف بين بن يوسف وحزب الاستقلال، الذي كان عدد من قادته يخضعون للمراقبة منذ الثلاثينيات، وفي 26 يناير 1951، حدد الجنرال جوان مهلة نهائية، وقال خلال لقاء بقصر الرباط "يجب على السلطان أن يعلن عدم موافقته على أساليب حزب الاستقلال الذي يواصل تكريس الحقد ضد فرنسا، بدعم من الحزب الشيوعي". فرد محمد بن يوسف بالقول إنه "لا يستطيع اتخاذ موقف ضد أي حزب"، لأن الأحزاب "مسؤولة عن أفعالها ومواقفها". فما كان من الجنرال إلا أن هدد بالقول "أنا مضطر لأعلن أمام جلالتكم (...) أنه في حال رفضكم نعتزم أن نطلب منكم التخلي عن العرش أو حتى قد نضطر إلى خلعكم إن كان هذا ضروريا".
وسيتكرر هذا التهديد في 25 فبراير 1951، من طرف خلف جوان، المقيم العام الجديد أوغستان غيوم، الذي "نفذ صبره"، وأبلغ محمد بن يوسف أن عليه توقيع عدة ظهائر معلقة وإلا فإن فرنسا ستقوم بخلعه عن العرش. فما كان من السلطان سوى الانحناء للعاصفة والتوقيع في 25 فبراير، وإنقاذ عرشه. ولكن إلى حين فقط. إذ سيتم الحسم في مصيره بشكل نهائي بعد خطاب العرش لـ18 نونبر 1952، خاصة بعد أن دعا الاحتلال إلى الانصياع للتطلعات المشروعة للشعب المغربي وتمكين البلاد من تدبير شؤونها بنفسها وممارسة كامل سيادتها. وتسارعت الأحداث بعد ذلك ليصل يوم 13 غشت 1953. في هذا اليوم سيبايع الباشا الكلاوي، ومن معه من قياد وبشاوات، محمد بن عرفة سلطانا جديدا بمباركة سلطات الحماية.
وفي 20 غشت 1953، طوقت الدبابات القصر الملكي بالرباط. وفي الساعة الثانية بعد الزوال أبلغ المقيم العام السلطان بن يوسف بقرار خلعه. وفي الساعة الثالثة و12 دقيقة اقتيد السلطان وابنيه تحت الحراسة العسكرية إلى طائرة متجهة إلى جزيرة كورسيكا. لتبدأ رحلة المنفى التي ستدوم عامين وثلاثة أشهر...
بتصرف عن مجلة "تيل كيل"