ورش الحماية الاجتماعية في المغرب بين الطموح والإكراهات

تيل كيل عربي

إعداد علي الغنبوري - رئيس مركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي

يعد ورش الحماية الاجتماعية في المغرب ركيزة أساسية ضمن الدينامية التنموية التي جاء بها النموذج التنموي الجديد، حيث لا يمكن الحديث عن إقلاع اقتصادي وتحقيق تحول إلى دولة صاعدة دون معالجة عميقة للمسألة الاجتماعية في شموليتها، فالحماية الاجتماعية ليست مشروعا معزولا عن باقي الأوراش الإصلاحية، بل هي في صلب المعادلة التنموية، باعتبارها الأداة الكفيلة بضمان العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاقتصادية والمجالية، وتحقيق الإدماج الاجتماعي للفئات الهشة.

وقد شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة تحولات نوعية في هذا المجال، عبر تبني سياسات وإصلاحات ترمي إلى تعميم التغطية الصحية، وتحسين أنظمة التقاعد، وتعزيز الدعم المباشر للفئات المستحقة، وهي خطوات تهدف إلى إرساء نموذج أكثر عدالة واستدامة، غير أن هذا الورش الطموح يواجه تحديات كبرى ترتبط بضرورة ضمان تمويل مستدام، وهيكلة الاقتصاد غير المهيكلة، ورفع فعالية آليات الاستهداف والدعم.

يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على واقع الحماية الاجتماعية في المغرب، واستعراض المنجزات التي تحققت، إلى جانب التحديات التي تواجه هذا الورش الحيوي، وذلك من خلال تحليل شامل للسياسات المعتمدة ومدى تأثيرها على الفئات المستهدفة، واستشراف سبل تطويرها لتحقيق الأهداف المنشودة.

المحور الأول: الإطار العام للحماية الاجتماعية في المغرب

  1. أوراش الحماية الاجتماعية الأربعة

يشمل مشروع الحماية في المغرب أربعة محاور أساسية تهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية وضمان الحماية الاقتصادية للفئات الهشة والعاملين في مختلف القطاعات، في مقدمة هذه الأوراش، تأتي التغطية الصحية الإجبارية عن المرض، والتي تروم تعميم التأمين الصحي على جميع المواطنين، بمن فيهم العاملون في القطاع غير المهيكل والمستفيدون سابقا من نظام المساعدة الطبية "راميد"، ويهدف هذا الإجراء إلى ضمان ولوج متكافئ للخدمات الصحية، حيث تتحمل الدولة مساهمات الفئات المعوزة، بينما يتم إدماج فئات أخرى ضمن أنظمة تأمين صحي مساهماتي.

إلى جانب التغطية الصحية، يشكل الدعم الاجتماعي المباشر تحولا جوهريا في طريقة توزيع الدعم العمومي، حيث يتم الانتقال من دعم غير موجه إلى دعم يعتمد على آليات الاستهداف الدقيق عبر السجل الاجتماعي الموحد، ويشمل هذا الدعم تحويلات مالية مباشرة للأسر الفقيرة، وتعويضات موجهة للأطفال المتمدرسين، وكذا دعم الأرامل والأشخاص في وضعية هشاشة.

الورش الثالث هو تعميم التقاعد، حيث يعد خطوة أساسية لضمان حماية اجتماعية شاملة، إذ يتيح لفئات واسعة خصوصا العمال المستقلين وأصحاب المهن الحرة، إمكانية الاستفادة من معاش بعد بلوغهم سن التقاعد، أما منحة فقدان الشغل، فتعد الركيزة الرابعة في مشروع الحماية الاجتماعية، حيث تهدف الى حماية الأجراء من التداعيات الاقتصادية المرتبطة بفقدان العمل، وتوفر لهم دعما ماليا مرحليا إلى حين تمكنهم من إيجاد فرصة عمل جديدة.

  1. الإطار القانوني والمؤسساتي

يعتبر ورش الحماية الاجتماعية في المغرب مشروعًا وطنيًا طموحا يهدف إلى تعزيز العدالة الاجتماعية وتوفير تغطية شاملة لجميع المواطنين، ويرتكز هذا المشروع على إطار قانوني ومؤسساتي متكامل يضمن تنفيذه بفعالية واستدامة.

الإطار القانوني

تم تأسيس الإطار القانوني للحماية الاجتماعية في المغرب على عدة مرتكزات رئيسية:

  • الدستور المغربي: يكرس الفصل 31 من الدستور الحق في الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، مما يلزم الدولة بتوفير هذه الحقوق للمواطنين.
  • القانون-الإطار رقم 09.21: يعد هذا القانون الصادر في 5 أبريل 2021، حجر الزاوية في إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، حيث يهدف إلى تعميم التغطية الصحية، التعويضات العائلية، توسيع قاعدة المنخرطين في أنظمة التقاعد، وتوفير التعويض عن فقدان الشغل.
  • القانون رقم 00-65 يتعلق بالتأمين الإجباري الأساسي عن المرض
  • القانون رقم 58.23 يتعلق بنظام الدعم الاجتماعي المباشر
  • القانون 72-18 المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي وبإحداث الوكالة الوطنية للسجلات (ANR)
  • الاتفاقيات الدولية: يستند المغرب في هذا المجال إلى التزاماته الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية رقم 102 لمنظمة العمل الدولية بشأن المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي.

الإطار المؤسساتي

لتنفيذ هذا الورش الطموح، تم تعزيز دور مجموعة من المؤسسات:

  • الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS): يعتبر الجهة الرئيسية المكلفة بتدبير التأمين
  • الإجباري عن المرض والتعويضات العائلية، بالإضافة إلى إدارة أنظمة التقاعد للقطاع الخاص.
  • الوكالة الوطنية للتأمين الصحي (ANAM): تشرف على تنظيم ومراقبة نظام التأمين الإجباري عن المرض، وضمان جودة الخدمات الصحية المقدمة.
  • وزارة الصحة والحماية الاجتماعية: تتولى وضع السياسات الصحية والاجتماعية، وتنسيق الجهود بين مختلف الفاعلين لضمان تنفيذ فعال لبرامج الحماية الاجتماعية.
  • آلية القيادة: نص القانون-الإطار رقم 09.21 في مادته 16 على إحداث آلية للقيادة تتولى تتبع تنفيذ إصلاح الحماية الاجتماعية وتنسيق تدخلات مختلف الأطراف المعنية، لضمان تكامل وتناسق الإجراءات المتخذة.
  • الوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي:تهدف الوكالة إلى إدارة وتنسيق برامج الدعم الاجتماعي المباشر، مثل الدعم المالي للأسر الهشة. تركز الوكالة على تحسين استهداف الفئات المستحقة وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاجتماعية.

يشكل هذا الإطار القانوني والمؤسساتي المتكامل الأساس الرسمي لتحقيق أهداف ورش الحماية الاجتماعية في المغرب، بما يضمن تعزيز التضامن الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع فئات المجتمع.

  1. التصميم والهندسة المالية

يعتمد تمويل مشروع الحماية الاجتماعية في المغرب على هندسة مالية متكاملة تهدف إلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة والتوسع في برامج الدعم الاجتماعي وفق رؤية مستدامة، وتبلغ التكلفة السنوية لهذا المشروع حوالي 53,5 مليار درهم سنويا، تتوزع كما يلي:

  • 17 مليار درهم لتمويل تعميم التأمين الإجباري عن المرض.
  • 29 مليار درهم لبرنامج الدعم الاجتماعي المباشر.

وسيتم تمويل هذا البرنامج عبر تخصيص 38,5 مليار درهم من ميزانية الدولة انطلاقا من آلية التضامن، و15 مليار درهم من الآلية القائمة على الاشتراكات.

تعتمد هذه الهندسة المالية على مزيج من التمويلات العمومية والاشتراكات، مما يضمن استدامة المشروع دون التأثير الكبير على التوازنات المالية للدولة، حيث تتألف التمويلات العمومية للورش من:

  • المخصصات المالية من ميزانية الدولة؛
  • العائدات الضريبية المخصصة لتمويل الحماية الاجتماعية؛
  • الموارد المتأتية من إصلاح نظام المقاصة؛
  • الهبات والوصايا.
  1. آليات الاستهداف:

لتحقيق فعالية برامج الحماية الاجتماعية، كان من الضروري ضمان وصول الدعم إلى الفئات المستحقة له، وهو ما شكل تحديا كبيرا في المغرب على مر السنين، فبالرغم من تعدد برامج تقديم المساعدات، إلا أن غياب آلية دقيقة وموحدة لاستهداف المستفيدين، جعل المغرب يعاني من فعالية هذه البرامج ومن ضعف قدرتها على تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفئات الأكثر حاجة، حيث اثرت هذه الإشكاليات على الوصول الفعلي للدعم الى الفئات المستحقة.

وللتغلب على هذه التحديات وتحقيق أكبر قدر من الكفاءة في توزيع الدعم، تم اعتماد آليتين أساسيتين:

  • السجل الوطني للسكان: هو نظام معلوماتي يعنى بتسجيل جميع المواطنين المغاربة والأجانب المقيمين بالمملكة، ومن خلال هذا السجل، يمنح كل فرد معرفا رقميا موحدا يستخدم للتحقق من هويته وتحديد بياناته الشخصية والاجتماعية بشكل دقيق.
  • السجل الاجتماعي الموحد: نظام معلوماتي مخصص لتسجيل الأسر الراغبة في الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، حيث يعتمد على معايير اجتماعية واقتصادية محددة لتحديد أهليتها، من خلال تقييم الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، يضمن هذا السجل استهداف الفئات الأكثر حاجة، مثل الأسر ذات الدخل المنخفض أو التي تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية، حيث تساهم هذه الآلية في توجيه الدعم إلى الفئات المستحقة بدقة، مع الحد من الظواهر السلبية مثل التلاعب أو استفادة غير المستحقين، خاصة مع اعتماد عتبة لمؤشر الاستفادة من مجانية التغطية الإجبارية عن المرض ، و الدعم الاجتماعي المباشر :

التغطية الاجبارية عن المرض:حدد مرسوم رقم 2.23.690 بتطبيق القانون رقم 60.22 المتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بالأشخاص القادرين على تحمل واجبات الاشتراك الذين لا يزاولون أي نشاط مأجور أو غير مأجور ، عتبة الاستفادة المجانية في المنظومة في اقل من 9،3264284.

الدعم الاجتماعي المباشر: حدد مرسوم رقم 2.23.1068 بتحديد عتبة الاستفادة من نظام الدعم الاجتماعي المباشر ، عتبة الاستفادة في 9،743001.

المحور الثاني: منجزات ورش الحماية الاجتماعية في المغرب

يعد ورش الحماية الاجتماعية في المغرب أحد المشاريع الهيكلية التي تهدف إلى توسيع نطاق التغطية الصحية، وتعزيز آليات الدعم الاجتماعي، وإصلاح أنظمة التقاعد، وقد تم اتخاذ مجموعة من التدابير القانونية والتنظيمية لتنزيل هذه الإصلاحات على أرض الواقع، مع تسجيل تقدم في بعض الجوانب، مقابل تحديات مستمرة في أخرى. وبينما تتواصل جهود التنفيذ، يبقى تقييم الأثر الفعلي لهذه السياسات ومسألة استدامتها موضع نقاش بين مختلف الفاعلين.

  1. تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض (AMO)

في إطار استكمال التأطير القانوني لنظام التأمين الإجباري عن المرض وتعزيز الحماية الاجتماعية، تم تحقيق تقدم ملموس من خلال إصدار وتعديل مجموعة من القوانين والمراسيم التنظيمية، فقد تم إصدار القانون رقم 27.22، الذي يحدد التزامات المشتركين القادرين على تحمل واجبات الاشتراك، بالإضافة إلى تعديل وإتمام القانون رقم 65.00 المتعلق بنظام المساعدة الطبية، والذي تم إلغاؤه لتعويضه بنظام جديد أكثر شمولية وعدالة.

كما تم اتخاذ إجراءات تنظيمية لضمان استفادة الفئات غير القادرة من التغطية الصحية، حيث صدر المرسوم رقم 2.22.797 وتم إتمامه بـ المرسوم رقم 2.23.866، لتحديد كيفية التسجيل وتحمل المصاريف وضمان تمويل النظام الصحي، وفي السياق ذاته، تم إصدار المرسوم رقم 2.22.923 لضبط آليات تمويل هذا النظام، مع تحديد فئات المستفيدين بموجب المرسوم رقم 9.3264284 والنقطة 2.22.924، المرتبطة بتدبير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وعلى مستوى التنفيذ، تم تعزيز التغطية الصحية للمؤمنين عبر المستشفيات العمومية والمراكز الاستشفائية الجامعية، إلى جانب دعم هذا النظام بتعاون مع الوكالة الوطنية للتأمين الصحي والقطاع الاجتماعي.

وهنا يتوجب التمييز بين 4 فئات من المستفيدين من نظام التغطية الإجبارية عن المرض:

الفئة 1: امو التضامن "الأشخاص غير القادرين على المساهمة "

بلغ العدد الإجمالي للمسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بحلول سبتمبر 2024 حوالي 10.93 مليون شخص، من بينهم 4.05 مليون مشترك رئيسي و6.87 مليون مستفيد من ذوي الحقوق.

الفئة 2: العمال غير الأجراء والمهنيين والعمال المستقلين

لم يتجاوز عدد المسجلين في النظام 1.68 مليون شخص، أي ما يعادل 56% من إجمالي الفئات المستهدفة، والمقدرة بـ 3.5 مليون شخص،كما أن عدد المؤمنين الذين يستوفون شروط الاستفادة الفعلية من التأمين بلغ 1.2 مليون مستفيد، منهم 736 ألف مشترك رئيسي و467 ألفا من ذوي الحقوق.

 الفئة 3: نظام التأمين الإجباري عن المرض للأشخاص القادرين على تحمل واجبات الاشتراك الذيم لا يزاولون أي نشاط مأجور

تم تسجيل 133,140 شخصا، من بينهم 83,790 من ذوي الحقوقالمفتوحة، بنسبة 67٪، منهم 63,280 منهم مؤمن رئيسي، و20,500 من ذوي الحقوق.

الفئة 4: الذين لم يشملهم بعد نظام التغطية الاجبارية عن المرض

على الرغم من مرور ازيد من ثلاث سنوات، لا يزال هناك مواطنون لم يشملهم هذا النظام، ومنهم الفئات المحددة في المادة 114 من القانون رقم 65.00، والذين يستفيدون من التغطية الصحية في إطار عقود مع شركات التأمين او تعاضديات خاصة بهم، ويتجاوز عددهم في القطاع الخاص والعام، المليون شخص،وبالإضافة الى هذه الفئة، فان نسبة تغطية 22 مليون شخص إضافي المنصوص عليها في القانون الإطار لم تتجاوز 68 في المئة في نهاية 2024.

  1. الدعم الاجتماعي المباشر

وفقا لبيانات الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين، بلغ إجمالي الطلبات المستوفية للشروط للنظر فيها حتى نهاية شتنبر 2024 حوالي 4,6 مليون طلب، وأسفر ذلك عن تسجيل 4,18 مليون أسرة ضمن المستفيدين، حيث توزعت هذه الاستفادة بين 2,36 مليون مستفيد ضمن إعانات الحماية من مخاطر البطالة، و1,55 مليون مستفيد من الإعانات الجزافية، وبخصوص تكلفة الدعم الاجتماعي المباشر منذ بدء تنفيذه وحتى 10 أكتوبر 2024، فقد بلغت 18,54 مليار درهم، وفقا للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

إلى جانب ذلك، وفي إطار الدعم التكميلي الخاص بالدخول المدرسي، استفاد 1,78 مليون رب أسرة، حيث تم تسجيل 1,66 مليون طفل متمدرس في السلك الابتدائي، و959 ألف طفل في التعليم الإعدادي، و438 ألف طفل في التعليم الثانوي التأهيلي. كما تم تحديد سقف الاستفادة من هذه الإعانات في حدود 6 أبناء لكل أسرة، بمعدل 200 درهم لكل طفل في الابتدائي، و300 درهم لكل طفل في السلكين الإعدادي والثانوي التأهيلي، أما فيما يتعلق بإجمالي الدعم التكميلي للدخول المدرسي، فقد بلغ مجموع المبالغ المصروفة عبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي برسم الموسم الدراسي 2024-2025 ما قيمته 669,65 مليون درهم.

  1. إصلاح أنظمة التقاعد

يواجه ملف إصلاح نظام التقاعد حالة من الجمود، ورغم التحذيرات المتكررة من نفاد احتياطيات نظام المعاشات المدنية بحلول عام 2028، مما ينذر بأزمة مالية واجتماعية عميقة، ورغم كذلك التوافق على ضرورة الإصلاح خلال جولات الحوار الاجتماعي، فإن أي خطوات عملية لتنزيله لم تفعّل بعد، مما يثير مخاوف حول استدامة النظام وقدرته على الوفاء بالتزاماته المستقبلية.

وفي وقت سابق، قدمت الحكومة تصورا للإصلاح يقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية: رفع نسبة الاشتراكات، وتمديد سن التقاعد إلى 65 سنة، وتقليص قيمة المعاشات، غير أن هذه المقترحات واجهت معارضة قوية من الشركاء الاجتماعيين، الذين اعتبروا أن الإصلاح لا يجب أن يكون على حساب حقوق الموظفين والمتقاعدين، بل ينبغي أن يكون شاملا ومستداما يأخذ بعين الاعتبار التوازنات الاجتماعية والاقتصادية.

ورغم أن الحوار الاجتماعي الأخير أسفر عن توافقات مبدئية حول ضرورة إصلاح النظام، إلا أن أي خطوات ملموسة لم ترَ النور بعد، مما يترك المجال مفتوحا لمزيد من التأجيل والمراوحة، وفي ظل غياب رؤية واضحة، يبقى مصير الإصلاح معلقا، في وقت تتزايد فيه الضغوط المالية على صناديق التقاعد، مما يجعل الحلول المستقبلية أكثر تعقيدا وكلفة على الدولة والفاعلين الاجتماعيين على حد سواء، مع الإشارة الى ان سنة 2025 من المفروض ان تكون سنة لتعميم الاستفادة من التقاعد في اطار ورش الحماية الاجتماعية.

المحور الثالث: التحديات والإكراهات

تعد أوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، بما تشمله من تعميم التغطية الإجبارية عن المرض وتفعيل الدعم الاجتماعي المباشر، خطوة طموحة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الرفاه للمواطنين، غير أن هذه المبادرات تواجه تحديات وإكراهات كبيرة تهدد استدامتها وفعاليتها، تتمحور أساسا حول التمويل والاستدامة المالية، ضغط التكاليف على ميزانية الدولة، وإشكالية الاقتصاد غير المهيكل.

  1. تحدي الاستدامة المالية

يشكل التمويل والاستدامة المالية أحد أكبر التحديات التي تواجه أوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، خاصة في سياق تعميم التغطية الإجبارية عن المرض وتنزيل برامج الدعم الاجتماعي المباشر، فتحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب توفير موارد مالية تتجاوز 53 مليار درهم سنويا وبشكل مستدام، لتغطية النفقات المتنامية مع ضمان التوازن المالي بين المداخل والمصروفات، وهو ما يبدو صعب المنال في ظل المعطيات الحالية.

في سنة 2023، سجل نظام التغطية الإجبارية عن المرض معدل (نفقات/مداخل) بلغ 154%، مما يعني أن النفقات تجاوزت المداخل بشكل كبير، محققة عجزا في التحصيل وصل إلى 450 مليون درهم، وهو ما  يعكس اختلالا واضحا في التوازن المالي، حيث تتجاوز تكاليف تقديم الخدمات الصحية وتسيير النظام الموارد المتاحة، ومع تحليل تطور المداخل والنفقات خلال النصف الأول من سنة 2024، تظهر مؤشرات مقلقة تشير إلى استمرار هذا الاتجاه، إذ بلغ معدل (نفقات/مداخل) حتى نهاية شتنبر 2024 نسبة 117%، و هو ما يشكل دليلاعلى أن النظام لا يزال غير قادر على تحقيق التوازن المالي المنشود، مما ينذر بعجز مالي آخر بنهاية السنة إذا لم تتخذ تدابير تصحيحية عاجلة.

ويمكن تفسير هذا الاختلال المالي في منظومة الحماية الاجتماعية بعدة عوامل، أبرزها ضعف انخراط الفئات القادرة على المساهمة المالية في النظام، فعلى سبيل المثاللم يتجاوز عدد العمال غير الأجراء المسجلين في النظام 1.68 مليون شخص، وهو ما يمثل 56% فقط من إجمالي الفئات المستهدفة المقدر عددها بـ 3.5 مليون شخص، في حين لم تتعد نسبة التحصيل الفعلي للمساهمات 37%، مما يكشف عن فجوة كبيرة بين الإمكانيات المتاحة والمساهمات المجمعة، وإضافة إلى ذلكيظل أكثر من مليون شخص من العاملين في القطاعين العام والخاص خارج دائرة المساهمة في هذه المنظومة، نظرا لاستفادتهم من التغطية الصحية من خلال عقود مع شركات التأمين أو التعاضديات الخاصة، حيث يعكس هذا الوضع تحديًا مزدوجا يتمثل في محدودية الالتحاق بالنظام من جهة، وتشتت مصادر التغطية الصحية من جهة أخرى، مما يفاقم الضغط على الموارد المتاحة ويعيق تحقيق الاستدامة المالية.

  1. ضغط التكاليف على ميزانية الدولة

تشكل التكاليف المرتبطة بأوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، خاصة في مجالي الدعم الاجتماعي المباشر والتغطية الإجبارية عن المرض، عبئا متزايدا على ميزانية الدولة، مما يثير تساؤلات حول قدرة المالية العامة على تحمل هذه الالتزامات على المدى الطويل، فمنذ انطلاق برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، بلغت مساهمة الدولة في هذا الإطار 18.54 مليار درهم، وفي الوقت ذاته ساهمت الدولة بمبلغ 15.51 مليار درهم لدعم نظام التغطية الإجبارية عن المرض.

وتظهر هذه الأرقام، التي تجاوزت مجتمعة 34 مليار درهم، حجم الالتزام المالي الذي تتحمله الدولة لتفعيل هذه السياسات الاجتماعية الطموحة، غير أن هذا الضغط المالي يأتي في سياق اقتصادي قد يواجه تحديات أخرى، مثل تباطؤ النمو أو انخفاض المداخيل الضريبية، مما قد يعيق قدرة الدولة على مواصلة هذا المستوى من الإنفاق دون التأثير على التوازنات المالية العامة، فالاعتماد الكبير على الميزانية العمومية لتمويل هذه المبادرات، دون تعبئة موارد إضافية مستدامة، قد يؤدي إلى تقليص الاستثمارات في قطاعات حيوية أخرى كالتعليم أو البنية التحتية، أو حتى زيادة الدين العمومي إذا لجأت الدولة إلى الاقتراض لتغطية هذه النفقات.

بالإضافة الى ذلك، فإن استمرار هذا الضغط قد يفرض على الدولة خيارات صعبة، مثل رفع الضرائب أو تقليص نطاق الدعم والتغطية، وهي خطوات قد تثير ردود فعل اجتماعية سلبية، خاصة بين الفئات التي تعتمد بشكل أساسي على هذه البرامج، وبالتالييصبح من الضروري البحث عن حلول لتخفيف هذا العبء، كتعزيز مساهمة القطاع الخاص، تحسين كفاءة جمع الاشتراكات الاجتماعية، أو تطوير نماذج تمويلية مبتكرة، لضمان استدامة هذه السياسات دون المساس باستقرار المالية العامة أو جودة الخدمات المقدمة.

  1. إشكالية الاقتصاد غير المهيكل

يعد الاقتصاد غير المهيكل أحد أبرز التحديات التي تعيق تحقيق الاستدامة المالية لأوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، سواء تعلق الأمر بتعميم التغطية الإجبارية عن المرض أو تفعيل برامج الدعم الاجتماعي المباشر، فهذا القطاع الذي تتجاوز قيمته 30% من الناتج الداخلي الخام، ويضم أكثر من 60% من مجموع العاملين في البلاد، يشكل عقبة هيكلية أمام تعبئة الموارد المالية اللازمة لضمان استمرارية هذه السياسات الاجتماعية.

أولى هذه الإكراهات تتمثل في صعوبة إدماج العاملين في الاقتصاد غير المهيكل ضمن منظومة الحماية الاجتماعية، فمعظم هؤلاء العاملين، الذين يشملون الحرفيين، الباعة المتجولين، والعمال الموسميين، يفتقرون إلى عقود عمل رسمية أو دخل ثابت، مما يجعل فرض الاشتراكات الاجتماعية عليهم أمرا شبه مستحيل، وهو ما يقلص بشكل كبير قاعدة المساهمين في النظام، وبالتالي يحد من المداخل المالية المتوقعة لتمويل الخدمات الصحية والدعم الاجتماعي..

ثانيا، يؤدي حجم الاقتصاد غير المهيكل الكبير إلى تقليص المداخيل الضريبية التي تشكل مصدرا أساسا لتمويل ميزانية الدولة، فمع تجاوز هذا القطاع لثلث الناتج الداخلي الخام، فإن عدم خضوعه للضرائب يفقد الدولة موارد مالية ضخمة كان يمكن توجيهها لدعم أوراش الحماية الاجتماعية، وهو ما يضاعف من اعتماد الدولة على التمويل العمومي المباشر، مما يفاقم العجز المالي ويهدد التوازنات الاقتصادية العامة، خاصة في ظل التكاليف المرتفعة للتغطية الصحية والدعم المباشر.

ثالثا، يشكل الاقتصاد غير المهيكل تحديا في ضمان عدالة التوزيع والمساواة في الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، ففي حين تتحمل الدولة أعباء تمويل هذه البرامج لصالح جميع المواطنين، يبقى العاملون في القطاع المهيكل هم الأكثر مساهمة عبر الضرائب والاشتراكات، بينما تظل الفئات غير المهيكلة مستفيدة دون مساهمة فعلية.

المحور الرابع: آفاق تطوير الحماية الاجتماعية في المغرب

بعد استعراض التحديات والإكراهات التي تواجه أوراش الحماية الاجتماعية في المغرب، يبرز الحاجة إلى استشراف آفاق تطوير هذا المشروع الاستراتيجي لضمان استدامته وتعزيز فعاليته، حيث يتطلب ذلك اعتماد رؤية شاملة ترتكز على إصلاحات هيكلية ومبتكرة تستهدف تعزيز التمويل، تحسين الاستهداف، تطوير الخدمات، وإدماج الفئات الهشة، وذلك لتحقيق أهداف العدالة الاجتماعية والرفاه المنشود.

  1. تعزيز الاستدامة المالية والإصلاحات التشريعية

يعد تعزيز الاستدامة المالية لمنظومة الحماية الاجتماعية ركيزة أساسية لضمان استمراريتها، ويتطلب ذلك تعبئة موارد مالية إضافية من خلال تنويع مصادر التمويل، كتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص وإنشاء صناديق استثمارية مخصصة لدعم التغطية الصحية والدعم الاجتماعي، كما يستلزم الأمر إصلاحات تشريعية تعزز كفاءة جمع الاشتراكات الاجتماعية، مثل تشديد الرقابة على التهرب من التسجيل، وتطوير أنظمة دفع مرنة تناسب الفئات ذات الدخل المنخفض، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم مراجعة الإطار القانوني في تحسين الحكامة المالية للنظام، من خلال وضع آليات لترشيد النفقات، تقليص الهدر، وضمان توجيه الموارد نحو الأولويات الحقيقية، مما يعزز التوازن بين المداخل والمصروفات ويقلل من الضغط على الميزانية العامة.

  1. تحسين آليات الاستهداف والدعم المباشر

يشكل تحسين آليات الاستهداف أحد المداخل الرئيسية لرفع نجاعة برامج الحماية الاجتماعية في المغرب، لاسيما في ما يتعلق بالدعم الاجتماعي المباشر، فاستهداف الفئات الأكثر هشاشة بدقة يتطلب تطوير قواعد بيانات موثوقة تعتمد على معايير واضحة ومنطقية، مثل مستوى الدخل، الوضع العائلي، والظروف الاجتماعية، ورغم التقدم الملحوظ الذي أُحرز في هذا المجال من خلال إحداث السجل الوطني للسكان والسجل الاجتماعي الموحد، اللذين مثلا خطوة هامة نحو توحيد البيانات وتحسين إدارة الدعم، فإن المنظومة لا تزال تعاني من اختلالات تعيق تحقيق منطق الاستهداف الأمثل للفئات الهشة والفقيرة.

من أبرز هذه الاختلالات، العتبة المعتمدة في المؤشر الخاص بالاستفادة من التغطية الصحية والدعم الاجتماعي، التي تعتمد على نقاط ومؤشرات تبدو في بعض الأحيان غير متسقة مع الواقع الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، يعتبر التوفر على خط هاتفي أو بعض الممتلكات البسيطة معيارا قد يخرج أسرا من دائرة الاستحقاق، رغم أن امتلاك هذه العناصر لا يعكس بالضرورة تحسنا في الوضع المادي أو خروجا من دائرة الهشاشة، و هو ما  يؤدي في كثير من إلى استبعاد فئات محتاجة فعليا، في حين قد يستفيد آخرون لا يستوفون شروط الهشاشة الحقيقية، مما يضعف فعالية الدعم ويقلل من تأثيره الاجتماعي.

في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في بعض المؤشرات المعتمدة للاستهداف، من خلال تحديثها وجعلها أكثر ملاءمة للواقع المعيشي للأسر المغربية، كما يمكن تعزيز فعالية الدعم عبر إجراء تقييمات دورية لاحتياجات المستفيدين، ومن الخيارات الممكنة أيضا، الانتقال من الدعم العام إلى الدعم المشروط، كربط المساعدات بتحقيق أهداف محددة مثل التعليم أو الرعاية الصحية للأطفال، مما يحقق مردودا اجتماعيا أكبر، يقلص التكاليف غير الضرورية، ويعزز العائد على الاستثمار الاجتماعي.

  1. إدماج القطاع غير المهيكل في المنظومة الاجتماعية

يبقى إدماج القطاع غير المهيكل، الذي يشكل أكثر من 60% من القوى العاملة، هدفا استراتيجيا لتوسيع قاعدة المستفيدين والمساهمين في منظومة الحماية الاجتماعية، ولتحقيق ذلكيمكن اعتماد سياسات تحفيزية تشجع العاملين في هذا القطاع على التسجيل، كتقديم اشتراكات مخفضة أو مدعمة، مع تسهيل الإجراءات الإدارية عبر منصات رقمية، كما يمكن تطوير برامج تأهيل  و تكوين مهني خطوة أساسية لتسهيل انتقال هؤلاء العاملين إلى القطاع المهيكل تدريجيا، مما يعزز استقرارهم الاقتصادي ويمكنهم من المساهمة المالية في النظام، وفي الوقت ذاتهيمكن للحكومة العمل على تهيئة بيئة قانونية واقتصادية داعمة، كتخفيف الضرائب على الأنشطة الصغيرة الناشئة، لتشجيع الهيكلة وتقليص حجم هذا القطاع، مما يعزز من استدامة التمويل ويحقق تكافؤ الفرص بين مختلف الفئات.

  1. تحسين وتيرة التنمية والتشغيل

يعد تحسين وتيرة التنمية الاقتصادية وتعزيز فرص التشغيل أحد الآفاق الأساسية لتطوير منظومة الحماية الاجتماعية في المغرب، إذ لا يمكن تجاوز التحديات والإكراهات المالية التي تواجه هذه السياسات إلا من خلال رفع نسق النمو وتوسيع قاعدة العاملين المساهمين في النظام، فالتنمية تشكل المحرك الأساسي لتعبئة الموارد المالية اللازمة، سواء عبر زيادة الإيرادات الضريبية أو تعزيز الاشتراكات الاجتماعية الناتجة عن تحسين مستوى التشغيل، و هو ما يفرض تحسين منظومة التكوين والتعليم لتكون قادرة على مسايرة الإيقاع التنموي المغربي.

كما أن توفير فرص شغل مستدامة سيساهم في تقليص الاعتماد على الدعم الاجتماعي المباشر، حيث إن تحسين الدخل الفردي والأسري يقلل من حجم الفئات الهشة ويعزز قدرتها على المساهمة في تمويل التغطية الصحية والخدمات الاجتماعية، وهو ما يبرز أهمية الاستثمار في القطاعات ذات القدرة التشغيلية العالية، كالصناعة، الفلاحة المستدامة، والتكنولوجيا، مع تشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغرى لتوسيع قاعدة الاقتصاد المهيكل، وهو ما سيمكن من تخفيف الضغط على الميزانية العامة، ويعزز استدامة المنظومة الاجتماعية، مع ضمان تحقيق توازن بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للمملكة.