بقلم: عبد الصمد ايشن - باحث بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط
خلال الفترة الممتدة بين 4 و 11 فبراير سنة 1945 عقد فرانكلين روزفلت و جوزيف ستالين و ونستون تشرشل، القادة الكبار لدول أمريكا والاتحاد السوفياتي وبريطانيا، مؤتمرا بالمدينة الجميلة والهادئة، المطلة على البحر الأبيض المتوسط "يالطا" بشبه جزيرة القرم، حيث كانت الحرب العالمية الثانية تحط أوزارها، بعد بلوغ القوات السوفياتية أراضي ألمانيا النازية (الهدف الذي سعى له ستالين وكان السبب الرئيسي في تأخير عقد مؤتمر يالطا، لكي يملي شروطه من موقع قوة كمنتصر على النازية).
اتفق القادة الثلاث على نقط عديدة خلال أشغال المؤتمر، لكن العنوان العريض لهذا اللقاء التاريخي هو تقاسم العالم بعد الحرب العالمية الثانية وترسيم الحدود بين المعسكرين الشرقي والغربي، في أوروبا "القارة العجوز". ليُتوِّجُوا لقاءَهم، وفق محاضر مؤتمر يالطا، بضرورة تأسيس منظمة الأمم المتحدة، من أجل إرساء قواعد القانون الدولي وإحلال السلام والأمن العالميين.
ذَكّرتُ -بتاريخ مؤتمر يالطا الذي نظم علاقات الكبار خلال القرن 20، الذي استنفدت أوفَاقُهُ أغراضها بشكل رسمي، مع سقوط جدار برلين نهاية القرن، وعودة نظام "الأحادية القطبية"-، لكي أشرح؛ بوادر ولادة نظام عالمي جديد خاصة بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فيلاديمير بوتين، والتي اتفقا فيها على "بدء فريقي البلدين في المفاوضات على الفور".
مباشرة أعلن ترامب -بعد المكالمة الهاتفية "المثمرة للغاية" بتعبيره ـ، عن قرب لقاء الزعيمين الروسي والأمريكي بالسعودية، فيما يشبه مؤتمر يالطا 2، لترتيب أوراق العالم من جديد، بعد عقود من التوترات التي شملت القارات الخمس دون استثناء (سقوط جدار برلين، الحروب على فلسطين المحتلة، افغانستان، أوكرانيا، الشيشان، الربيع العربي، انقلابات إفريقيا، تايوان، لبنان، البريكست، أزمة 2008، كوفيد 19...).
قبل استشراف آفاق هذه القمة المرتَقَبة، التي ستكون بمثابة نسخة ثانية من مؤتمر يالطا التاريخي (= يالطا 2)، لابد من الوقوف عند دلالة اختيار السعودية مكانا لانعقادها. لم يعد خفيا على أحد حجم الثقل السياسي الإقليمي الذي أصبح للعربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط على الخصوص، ونجاحها مؤخرا في التوسط لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، مما أكسبها ثقة الطرفين. أيضا الوساطة الناجحة بين واشنطن وموسكو في ملف تبادل الأسرى، حسب ما صرح به المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف. ناهيك عن دورها الرئيسي كثاني أكبر منتج للنفط في استقرار أسعار الطاقة عالميا.
مؤتمر "يالطا 2" الذي ستحتضنه السعودية قد يشكل فرصة لفتح ملف القضية الفلسطينية كأحد أهم الملفات الشائكة في السياسة الدولية، بسبب تقاطع مصالح الغرب (أمريكا وأوروبا) والصين وروسيا، بشكل حاسم في منطقة الشرق الأوسط، بحيث لا يمكن أن تُقدِّمَ الصين وروسيا تنازلاتها للغرب في هذه المنطقة دون تنازلات غَربِية واضحة، في منطقة المحيط الهادئ بملفاته الساخنة (استقلال تايوان، الكوريتين، اليابان، الهند-باكستان..).
ولاستشراف آفاق القمة التي ستجمع ترامب وبوتين بالسعودية لابد أن نستحضر التصريحات والقرارات الرسمية (الأمريكية، الروسية، الصينية)، التي زادت وتيرتها مباشرة بعد تنصيب الساكن الجديد للبيت الأبيض، دونالد ترامب.
وفي هذا الصدد، نشير لكلمة وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث لما رسم الخطوط العريضة لرؤية الرئيس الأمريكي للسلام بأوروبا، بعبارات صريحة خلال اجتماع، مع وزراء دفاع حلف "الناتو". موضحاً: أن الأراضي "المحتلة" لن تعاد إلى أوكرانيا، وهو ما يعني ضمنا تجميد الصراع ووقف الحرب. ولن تحصل أوكرانيا على عضوية حلف "الناتو" ولا على ضمانات أمنية بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف، ولن تشارك قوات أمريكية على الإطلاق في قوات حفظ السلام. في ظل اقتراح إدارة الرئيس الأميركي على أوكرانيا منح الولايات المتحدة ملكية 50% من المعادن الأرضية النادرة. وهي التصريحات التي يفهمها الروس كانسحاب أمريكي واضح من أوكرانيا و" تخلي ضمني" عن حلف الناتو الذي ينتهج سياسات عدائية تجاه الأراضي الروسية بتهديده المستمر بضم جورجيا وأوكرانيا للحلف (وهي دول متاخِمة للعمق الجيواستراتيجي الروسي).
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال رغبة الرئيس الأمريكي للقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين لمناقشة موضوع خفض الأسلحة النووية. موضحاً ضمن لقاء صحفي أنه "ليس هناك سبب يدعونا إلى بناء أسلحة نووية جديدة، لدينا بالفعل الكثير منها، ويمكن أن تدمر العالم 50 مرة أو 100 مرة". وأنه سيقترح أن تقوم الدول الثلاث بخفض ميزانياتها العسكرية إلى النصف. ما يعني رغبة ترامب الحثيثة في التوصل لاتفاق أمريكي-روسي-صيني قريب. وهو الذي صرح بعد ذلك بأن "الرسوم الجمركية على الصين هي الضربة الأولى، وإذا لم نتوصل إلى اتفاق فسوف ترتفع". ونحن نعرف أن الضغط والتهديد يعكس الرغبة القوية في التفاوض لا الرغبة في الحرب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال أيضا، أن نظيره الأمريكي دونالد ترامب سيستعيد النظام بسرعة كبيرة عبر شخصيته والنخب الأوروبية سترضخ لأوامره.
إذن، يوما بعد يوم، تنضج شروط الجلوس لطاولة المفاوضات بين ترامب وبوتين، ما يؤكد أن القمة المرتقبة في السعودية قد تكون أرضية مشتركة بين الدولتين، لفتح تفاوض استراتيجي بينهما، بعد توفير شروط التحاق الصين كطرف الرئيسي في التفاوض، لتقاسم مساحات النفوذ عبر العالم، بما يعكس مصالح هذه الدول ومصالح الدول الصاعدة ذات النفوذ الإقليمي (الهند، تركيا، إيران، السعودية، مصر، المغرب، البرازيل..).
عبر التاريخ لم تكن الحروب هدفا في حد ذاتها، بل كانت امتدادا للسياسة وشوطا ضمن أشواطها الحاسمة. اليوم بالذات استنفد العالم أغراضه من الحروب، لأن البشرية لم يعد يفصلها على الأفتك منها (= الحرب النووية) إلا "ملم" واحد. وهو ما انتبه له عقلاء العالم، منذ خطاب بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007، لما قال أن سقوط جدار برلين كان بمثابة الضربة الجيوسياسية التي هزت العالم وأن سقوطه لم يكن في صالح الغرب نفسه.
منذ تلك اللحظة ومعسكر الشرق الجديد (الصين- روسيا) يهادنان "الغرب المنتحِر"، عسى أن تنضج الشروط الداخلية في أمريكا على الخصوص، لتفرز محاوراً جيدا من قبِيل ترامب. ويجلس القادة الكبار للحوار في قمة عالمية تاريخية، كما جلس روزفلت وستالين وتشرشل في مؤتمر يالطا لسنة 1945. وذلك من أجل ترسيم الحدود الجيوسياسية بين الفاعلين الكبار، لضمان المنافسة التجارية والتكنولوجية، وفق قواعد سلمية تغني العالم عن الحروب.
لن نكون متفائلين إلا بالمستقبل البعيد نسبيا، أما القريب فقد يَحمِل احتمالين؛ إما الحوار لبلوغ اتفاق بين الصين وروسيا وأمريكا، أو الضغط المتبادل الذي قد يفتح الباب أمام حرب نووية مدمرة، قد تكون أوروبا لعدة أسباب ساحة لها حسب تحذيرات خبراء في هذا المجال.
لكن شبه مؤكد أن "عقلانية" الإدارة الأمريكية الجديدة، سترجح كفة "السلام" على الحرب. الأمر الذي نستشفه من الخطوط العريضة لسياستها تجاه الملفات الشائكة كما وضحنا سابقا (أوكرانيا، فلسطين المحتلة، تايوان..). وما يؤكد تحليلنا، على سبيل المثال، خطاب جيه دي فانس نائب رئيس الأمريكي الأخير، أمام القادة العسكريين والسياسيين للدول الأوروبية بمؤتمر ميونيخ للأمن2025. الذي ظننت وأنا أنتظر بثه على المباشر، أنه سيتحدث عن الحرب الأوكرانية، وزيادة الإنفاق العسكري لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. لكن كانت الصدمة، بعدما تحدث فانس بلغة رزينة وجد عقلانية، تدعوا القارة الأوروبية إلى الالتزام بالقيم الديمقراطية المؤسِّسة، خاصة احترام الأديان والأقليات الدينية، والتراجع عن السياسات اليمينية المتطرفة في مجال القيم (الشذوذ الجنسي والإجهاض..).
ولكي يفهم القارئ ما أنا بصدد شرحه أُورِدُ بعضاً من خطاب نائب الرئيس الأمريكي. فقد شرح بوضوح: "التهديد الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر في ما يتصل بأوروبا ليس روسيا، ولا الصين، ولا أي طرف خارجي آخر، ما يقلقني هو التهديد من الداخل. تراجع أوروبا عن بعض قيمها الأساسية". منتقدا الحليف الأقرب لبلاده، بريطانيا، لما سلط الضوء على قضية الناشط المناهض للإجهاض آدم سميث كونور، الذي أُدين العام الماضي بانتهاك منطقة آمنة بالقرب من عيادة للإجهاض.
واسترسل فانس بلغة أثارت حفيظة القادة الأوروبيين: "بعد أن رصده رجال إنفاذ القانون البريطانيون وطالبوه بمعرفة ما كان يصلي من أجله، رد آدم ببساطة، كان ذلك من أجل الابن الذي لم يولد بعد والذي أجهضه هو وصديقته السابقة قبل سنوات".
لقد كان خطاب فانس، بمثابة إنذار أخير من ترامب لحلفائه الأوروبيين بضرورة التخلي عن السياسات المتطرفة تجاه الأقليات و"سياسة الحروب" بشكل أساسي، عبر العودة للقيم الديمقراطية المؤسِّسة، وهو نفس الإنذار الذي طالما وجهه ترامب لإدارة الديمقراطيين في ولاية أوباما وبايدن.
إنذارات ترامب ومحاربته لسياسة الحروب بالسلاح والقيم المدمرة للشعوب، جاءت لتعزيز سياسته في مجالات التنمية السلمية، بتشجيع البحث العلمي والتكنولوجي (إيلون ماسك) الرأسمالية الصناعية الأمريكية (والأوروبية ضمنيا).
أدرك عقلاء الغرب بشكل متأخر، أن التفوق الصيني لم يكن نتيجة نفوذ عسكري كاسح، بل كان أساسا نتيجة "سياسات التنمية" السلمية خارجيا (اتفاقيات رابح-رابح) وداخليا لما وفر للشعب الصيني الرفاه مجانا. لأن الصينيين منذ البداية فسحوا الطريق للعوامل غير الاقتصادية المؤثرة في الاقتصاد (قيم السلم والديمقراطية)، مدركين أنه لا ثورة علمية وتكنولوجية دون ثورة ثقافية.
رجوع الغرب اليوم للقيم والجلوس لطاولة المفاوضات مع الشرق، هي بداية انقاذ لشعوبه ولاقتصاده ونفوذه السياسي عبر العالم، بعدما أدرك أن "الحرب المصطنعة" تهزم صاحبها قبل أن تهزِم "منافِسَها المصطَنع".
(يتبع..)