كان لافتا في اللجنة التي عينها الملك محمد السادس، أمس من أجل وضع تصور لما يجب أن يكون عليه النموذج التنموي الجديد، حضور أربعة اقتصاديين مغاربة، دأبوا على التعبير عن آرائهم حول الأمراض التي تخترق النموذج الحالي، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام أو الندوات.
واقتضى تتبع مسارات أعضاء اللجنة، إعادة التذكير بمواقف نور الدين العوفي، ومحمد بنموسى، والعربي الجعايدي، ويوسف السعداني، باعتبارهم اقتصاديين، تفاعلوا بشكل كبير في كتاباتهم وتصريحاتهم مع الدعوة إلى وضع نموذج تنموي جديد:
نور الدين العوفى: الاستثمار في القدرات
يطغى الاهتمام بالفوارق على اهتمامات الاقتصادي، نور الدين العوفي، حيث يتساءل حول العوامل التي أفضت إلى فشل السياسات " الصديقة للفقراء" في محاربة الفقر والتهميش والإقصاء، وحول السر وراء استفادة الأقلية من السياسات الماكرواقتصادية، مادام "جريان" النمو لا يتم من الأعلى نحو الأسفل اجتماعيا ومن المراكز إلى الأطراف مجاليا.
ويستحضر العوفي، رئيس الجمعية المغربية للاقتصاد، الدور الذي لعبه الاقتصادي الهندي الفائز بجائزة نوبل، أمارتيا سين، في تطوير نظرية العدالة وإغنائها باعتبار مستوى القدرات التي يتوفر عليها الأفراد في "اختيار نمط الحياة الذي يتطلعون إليه.
ويرى أن أهمية مفهوم القدرات الذي يركز عليه أمارتيا سين، يكمن في "التنزيل الفعلي للحقوق الشكلية، أو السلبية (الحق في التعليم، في الصحة، في السكن، في الشغل)، وتحقيقها على أرض الواقع، لتتحول إلى خدمات فعلية يستفيد منها الجميع بنفس الشروط والمواصفات (المدرسة، المستشفي، سوق الشغل، الولوج إلى المناصب، إلى غير ذلك)".
ويتصور عضو اللجنة العلمية لتقرير الخمسينية، أنه "في وضعية الحرمان الشامل، وضعف مؤشرات التنمية البشرية، يشكل شرط التمكين من القدرات، بالاستثمار فيها، قاعدة لتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص، ولتحقيق العدل، ولإنجاز الأفراد لنمط العيش الذي يصبون إليه"
ويلاحظ أن الحكومة "تعتمد في الأغلب على المؤشر المالي، أي على مستوى الدخل، في صياغة السياسات الاجتماعية، بينما تقوم الفوارق على عجز أصلي، متراكم ومتفاقم، في الضروريات من القدرات، من جهة، وعلى الاختلال الحاصل في شروط التحقيق، والتفعيل، والإنجاز (نفس المؤهلات والكفاءات لا تقابلها نفس الفرص) من جهة أخرى".
ويشدد على أن التقليص من الفوارق الاجتماعية، تستدعي "تعديل الأولويات بالاستثمار في الضروري من التنمية بصفة عامة، ومنه الاستثمار في القدرات، والارتقاء بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى مستوى الساق الثانية التي تقف عليها استراتيجية التنمية الشاملة (يشكل الاستثمار في البنيات الثقيلة والمادية الساق الأخرى)، أي بالمزاوجة بين الكفاءة الاقتصادية القائمة على الاستثمار المنتج، وبين العدالة الاجتماعية التي تتطلب التمكين من القدرات".
يوسف السعداني: التعليم أولا
ينشغل الاقتصادي يوسف السعداني، بقضايا التربية، خاصة في ما يتصل بالموارد البشرية، التي يرى أن الرقي بجودتها له دور حاسم في الخروج من وضعية النمو الهش.
ذلك الجانب المتعلق بالتعليم لفت كثيرا الانتباه إلى السعداني الذي يستحضر تجارب بلدان استثمرت في التعليم الذي كان في قلب نهضتها الاقتصادية، علما أنه أبحاثه تنشغل كذلك بأسباب ضعف النمو الاقتصادي وتأثير ذلك على الفوارق الاجتماعية و الخدمات العمومية.
ويؤكد السعدني على ضرورة جعل مهنة الأستاذ أكثر جاذبية عبر تكوين متين وأجور مغرية، ما من شأنه أن يخرج التعليم المغربي من حالة التراجع التي تؤكدها العديد من التقارير الوطنية والدولية.
ويعتبر مدير الدراسات الاقتصادية بصندوق الإيداع والتدبير، أنه يجب تغيير النظام القائم على جعل مهنة الأستاذ، تجذب خريجين من مستويات أكاديمية وبيداغوجية جد ضعيفة، معتبرا أن توظيف وتكوين الأساتذة من بين المواضيع الإشكالية في إصلاح نظام التربية بالمغرب.
ويشدد على ضرورة أن تصبح مهنة التعليم مرموقة في المغرب، عبر انتقاء المرشحين الأكثر كفاءة، ما يستدعي في تصوره إعادة النظر في أجور الأساتذة وفتح آفاق مسارات واعدة أمامهم.
ويستحضر السعداني النموذج الصيني، حيث يخضع الأساتذة لنظام الدرجات، حيث أن الانتقال من درجة إلى أعلى يمنح الأستاذ اعتبارا أكبر ومسؤوليات أكبر.
ويشير إلى أن الترقية في ذلك البلد تبقى مرهونة بإنجاز الأستاذ لأبحاث في علم التربية، معتبرا أن هذا النظام يتيح للأستاذ الحصول على معارف جديدة وتحسين أجره.
ويرى السعداني أن الأساتذة يجب أن يختاروا من خريجي كلية علم التربية فقط، مشيرا إلى أن هذه الكليات، يجب أن أن تقدم عرضا دراسيا يسخر تخصصات مثل علم اجتماع التربية وتاريخ التربية وبسيكولوجيا التعلم والفلسفة.
وشدد على أن الإلمام بهذه التخصصات يتيح للأستاذ لعب دوره كناقل للمعارف، غير أنه من أجل ذلك يرى السعداني، أنه يفترض في تلك الكليات أن تتوفر على الوسائل التي تتيح لها ممارسة مهمتها، حيث يجب أن تجري معاملاتها كما المدارس الكبرى.
ويدافع يوسف السعداني في الكثير الآراء التي يعبر عنها، عن فكرة مفادها أن حل مشكلة جودة انتقاء الأساتذة في المغرب، سيجعل الأسباب الأخرى التي تساهم في أزمة التعليم ثانوية.
ويعتبر السعداني من بين الباحثين المغاربة، الذين يلحون على ضرورة الرقي بجودة الموارد البشرية، لما له من دور في الخروج من وضعية النمو الهش، مؤكدا أن الرفع من الجودة في التعليم قد يكلف الدولة 2 في المائة من الناتج الداخلي الخام.
العربي الجعايدي: القطع مع نظام الريع
يتصور العربي الجعايدي أن مسألة النموذج التنموي تتجاوز البعد التقني، حيث يؤكد على أن ما يجب التشديد عليه، هي القيم التي سيبنى عليها النموذج، أي المعايير المؤسساتية التي تتيح لاقتصاد بالعمل بفعالية.
ويرى عضو"بوليسي سانتر فور نيو ساوت " أن الإنصات للمواطن، يشكل الهدف الأسمى للنموذج، خاصة أن أشكال الاحتجاج الجديد التي يعرفها المغرب، تؤشر على حجم الانتظارات التي يجب البحث لها عن أجوبة بشكل جماعي.
ويعتبر الجعايدي الذي سبق له أن شغل منصب مستشار لرئيس الحكومة، أن من بين الانتظارات التي يعبر عنها المواطن، تلك التي تتعلق بحضور أكبر للدولة، حيث يترقب سياسيات عمومية تقلص المخاطر الفردي في مواجهة ظواهر مستقلة عن اختيارات الأسر.
ذلك أول تطلع للمواطن، أما المبتغى الثاني، فيتمثل في الحلم بعدالة وشفافية أكثر في القرارات العمومية، بالموازاة مع ذلك، يرنو إلى ولوج سهل للخدمات العمومية الأساسية.
ويرى، ثالثا، في حوار مع " تيل كيل"، أن المواطنين يعتبرون أن الآليات الاقتصادية، لا يجب أن تختزل في الخلق الخالص للثروة، بل في التوزيع العادل.
ويتصور الجعيدي، الذي يعتبر خبيرا مستقلا لدى الهيئة المغربية لمحاربة الرشوة، أنه لا يمكن الحديث عن المغرب كاقتصاد صاعد، إذا لم يبرز فاعلون ناضجون واعون بالمخاطر في محيطهم، ما يستدعي في تصوره التوجه نحو المنافسة المشروعة والقطع مع نظام الريع وأشكال الزبونية والرشوة التي تميز العلاقات بين الإدارة وعالم المقاولة.
ويشدد على أن الميثاق الجديد يجب أن يبدأ بتوافق حول قواعد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع.
محمد بنموسى: ضبط العلاقة بين عالم السياسة وعالم الأعمال
يعتقد محمد بنموسى، أنه يجب التعاطي مع النموذج التنموي الجديد، بالاسترشاد بمقاربة تسحضر الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والثقافية.
ويتصور أنه يفترض البدء بتقييم الحقوق المتكسبة في إطار الدستور، وفهم الأسباب التي جعلت بعض الحقوق تظل حبرا على روق، معتبرا أنه من الضرورة وضع إطار تشريعي يشجع حرية المعتقد، وتعزيز حقوق النساء على مستوى الإرث والحق في الإجهاض.
ويرى أنه يتوجب إعادة النظر في تنظيم النسق السياسي، عبر مراجعة التقطيع الانتخابي، حيث يفترض في الدوائر أن تعكس الكثافة الديمغرافية، مع السعي إلى إصلاح نظام الاقتراع، بما يساعد على التوجه نحو نظام أغلبي في مرحلتين، ما من شأنه أن يفرز أغلبية منسجمة.
ويشدد على ضرورة ضبط نزاعات المصالح بين عالم السياسة وعالم الأعمال، مع السعي إلى محاربة القطاع غير المهيكل المصنع، بالموازاة مع مواكبة القطاع غير المهيكل المعاشي، دون إغفال إشكالية تمويل المقاولات الصغيرة جدا والمقاولات الصغيرة والمتوسطة.
ويستحضر ضرورة توفير بنك عمومي للاستثمار، على غرار النموذج الألمالي، الذي أتاح التموقع الاستراتيجي والتصدير، عبر توفير التمويل والاستشارة والأسواق للمقاولات الصغيرة والمتوسطة.
ويتصور أنه ليست المقاولات الكبيرة التي ستخلق 250 ألف فرصة عمل في العام الواحد، بل المقاولات الصغيرة جدا والمقاولات الصغيرة والمتوسطة، التي يرى أنه عدم فعل أي شيء من أجل بث روح جديدة، ستتواصل الدائرة المفرغة للبطالة.
ويرى أن الجباية يمكن أن تغير المجتمع، ما يدفعه إلى التركيز في أي إصلاح على إحداث نوع من التناغم بين العمل والرأسمال وخلق توازن بين المقاولات الصغيرة والمقاولات الكبيرة والتخلي عن وضعيات الريع الجبائي.
.