خرجوا في صمت وفي جنح الظلام، عبر رحلات قانونية صوب دول الجوار السوري. لم يخبروا عائلاتهم ولا أصدقاءهم بوجهتهم ولم يعلموهم بمدة الغياب. هبوا في خلسة مع رياح ما يسمى بـ"الربيع العربي" في رحلة من المغرب إلى المشرق، فطال مقامهم هناك. منهم من اختفى دون أن يترك أثرا، ومنهم من ترك نسلا وأرامل تائهة في مخيمات لاجئين، بعد أن أجهض حلم إقامة "دولة الخلافة" في العراق والشام، لتبدأ معاناة جديدة لهؤلاء، تتعلق بالرغبة في العودة، لكن هذه المرة ليس في صمت، بل بأنين ودموع، خاصة أن أغلب العالقين هم من النساء والأطفال.
بعد مرور أزيد من ثماني سنوات على بداية الصراع في سوريا بين النظام وفصائل متمردة تتغذى بالفكر الجهادي العابر للقارات، ومع فشل حلم "الجهاديين" في إقامة "دولة الخلافة"، التي هدمها الجيش العربي السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون، تعيش أسر مقاتلين مغاربة الأمرّين في مخيمات اللاجئين في شمال سوريا.
عائلات الداخل تتعبأ لعودة من الخارج
يقول عبدالعزيز البقالي، رئيس التنسيقية الوطنية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة بسوريا والعراق، إن فكرة إنشاء جمعية خاصة بهم، جاء بناء على الطلبات الكثيرة لعائلاتهم هنا في المغرب، والتي إما تجهل مصير أبنائها، أو أنها تريد استعادة أحفادها اليتامى هناك.
ويوضح، في تصريح لـ"تيلكيل عربي": "عندما قررنا تأسيس هذه التنسيقية، كانت بأيدينا عشرة ملفات قدمتها لنا عائلات فقدت التواصل مع أبنائها بعد أن هاجروا إلى سوريا أو العراق قصد القتال هناك، بعدما غرر بهم دعاة التحريض، وبعد أن رأينا النور قانونيا، بلغ عدد الملفات أكثر من 110 ملف تخص حالات مغاربة عالقين هناك".
بالنسبة لهذا الشاب ابن طنجة، الذي كان خبر معاناة الأسر التي فقدت أبناءها نتيجة استقطابهم في صراع بعيد جغرافيا، عندما بدأ، قبل عشر سنوات، مسلسل البحث عن شقيقه المحكوم بالإعدام في العراق، فإن الإحصائيات التقريبية التي تتوفر عليها التنسيقية تشير إلى وجود ما بين 250 و270 امرأة وطفل مغاربة عالقين في مخيمات اللاجئين في شمال سوريا، إضافة إلى ما بين 170 و180 شابا، تعدوا السن القانوني ولا يعودوا يحتسبون قاصرين أو أطفالا.
بالنسبة للتنسيقية، فإن الأهم هو ضرورة إعادة العالقين، خاصة من النساء والأطفال. ويقول البقالي إن هناك ملفات تدمي القلب، لحالات إنسانية فريدة، منها حالة طفلين، فقدا واليهما، ويعيشان في مستشفى للصليب الأحمر، وأن هناك حالات لأرامل، لم يذهبن للقتال، وإنما رافقهن أزواجهن، ليجدن أنفسهن محتجزات، رفقة أطفال أنجبنهن فوق الأراضي السورية، وأن النسبة الأكبر من المغاربة العالقين يوجدون في مخيمات تابعة للأكراد في شمال سوريا، بينما لا تتعدى نسبة العالقين المغاربة في العراق 15 في المائة.
ويضيف البقالي أن التنسيقية تتواصل مع بعض العالقين المغاربة هناك، رغم حظر الأكراد للهواتف على اللاجئين، وبالتالي فإنها على اطلاع كبير على ما يعيشونه هناك، ويقول "هناك حالتان لمغربيتين في العراق؛ واحدة من مدينة طنجة والثانية من مدينة بني ملال، تقبعان في السجن، ولكليهما أطفال، وقد وافقت الحكومة العراقية على تسليم الصغار إلى السلطات المغربية، لكن ذلك لم يحدث بعد، وبالتالي فإنهم يعيشون في دور أيتام في العراق، دون أن تتواصل الوالدتان مع أطفالهما".
أحاديو الجنسية أفضل من مزدوجيها
يكشف البقالي أن هناك نوعين من المغاربة العالقين، نوع يتوفر على الجنسية المزدوجة، وهم غالبا من القادمين من دول أوربية، ونوع ثان سافر مباشرة من المغرب، ويضيف "المثير، أننا اكتشفنا أن أصحاب الجنسية الواحدة أكثر حظا من أصحاب الجنسيات المزدوجة، فمثلا، فرنسا وهولندا تقوم مباشرة بسحب جنسيتها من المدانين في قضايا الإرهاب، وبالتالي فهم عندما يريدون العودة إلى بلدهم الأصلي يواجهون بأن عليهم قصد بلد المنشأ، وهذا ما أدى إلى وجود فئة بلا هوية ولا جنسية عالقة هناك".
يقول رئيس التنسيقية الوطنية لعائلات العالقين والمعتقلين المغاربة بسوريا والعراق إن يدهم ممدودة إلى جميع الفاعلين، سواء كانوا حكوميين أو نشطاء مدنيين للمساهمة في استعادة هؤلاء الأطفال والنسوة.
ويؤكد البقالي "نحن نطالب بإعادة واسترجاع جميع المغاربة المعتقلين والعالقين والمحتجزين بسوريا والعراق، مع ضمان المحاكمة العادلة بعد العودة، والتدخل لدى الجهات المسؤولة والسلطات بهدف الإسراع بعملية الترحيل، مع توفير المواكبة النفسية والصحية لكل العائدين والمساهمة في دمج وإعادة تأهيل العائدين اجتماعيا، ودمج الأطفال العائدين في المنظومة التربوية والتعليمية، وتسهيل الحصول على الوثائق الإدارية اللازمة".
برلماني يضغط حتى تتحرك الدولة
المطالب، التي كشفها البقالي، يدعمها البرلماني عن حزب الأصالة والمعاصرة عبداللطيف وهبي، الذي كان أول من طرح ملف المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق. ويقول وهبي، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، إنه لا يمكن للدولة أن تتخلى عن أبنائها، خاصة الأطفال الذين لا يحملون أي ذنب فيما يعيشونه.
ويضيف وهبي، الذي دعا، في وقت سابق، إلى تنظيم زيارات إلى المعتقلات والمحتجزات التي يوجدون بها المغاربة، داعيا إلى تشكيل لجنة برلمانية خاصة لهذا الغرض، ويؤكد "مطلبنا يتمثل أساسا في حماية الأطفال والنساء والشباب المغاربة المغرر بهم ونقلهم من السجون والمحتجزات والمعتقلات السورية والعراقية إلى أرض الوطن وإعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع المغربي".
ويتابع وهبي "يجب علينا التحرك في أقرب الآجال. نحن الآن نتواصل مع الصليب الأحمر، ونقود محاولات من أجل أن تجري عملية استعادتهم سريعا، ولهذا الغرض، طلبت لقاء مع وزير التربية الوطنية ووزير الصحة، من أجل البحث في إمكانية تأهيل الأطفال بعد وصولهم، خاصة في ما يتعلق بالمتابعة النفسية والتأهيل الاجتماعي ومتابعة دراستهم".
حقوقي يتفهم الوضعية الأمنية
يعتبر رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان محمد بنعيسى، الذي كان أول من تطرق لوضعية المغاربة المعتقلين والعالقين في سوريا والعراق، أن الوضع الحالي في المخيمات السورية يبقى كما هو عليه، وأنه لا يوجد أي جديد على المستوى الميداني، سوى أن معاناة النساء والأطفال الموجودين بمخيمات الاحتجاز تزداد سوءا، خصوصا أننا في فصل الشتاء، حيث تعرف المنطقة بردا قارسا مع ضعف الموارد الغذائية التي تقدمها المنظمات الدولية.
ويضيف بنعيسى، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، "كنا نأمل أن تبدأ عملية إعادتهم مباشرة، بعد تصريح عبد الحق الخيام رئيس المكتب المركزي للأبحاث القضائية، حول إمكانية استعادتهم، خاصة بعد المعلومات التي تحدثت عن كون مجموعة من الأجهزة الأمنية حققت معهم، وأخذت بصماتهم وعملت على حصر عددهم".
ويشدد المتحدث على أن "المشكل لا يتعلق بالأطفال الأيتام أو مفقودي الوالدين"، ويوضح "أظن أن ما هو أعمق هو صعوبة التعامل مع الأطفال من زيجات مختلفة؛ مغربيات أو مغاربة تزوجوا من أجانب. فالموضوع ليس بالسهولة التي نتصورها، لكن الأكيد أن هناك حلا يجب أن يراعي ما هو حقوقي وإنساني من جهة، وما هو أمني وله علاقة بسلامة الوطن من جهة ثانية".
يسير بنعيسى في الاتجاه ذاته الذي ذهب فيه النائب البرلماني عبداللطيف وهبي، ويقول إن المرافقة النفسية والاجتماعية ضرورية للعائدين والعائدات ولأبنائهم، ويوضح "نحن أمام أشخاص عاشوا في بيئة صعبة وآخرون تمرسوا على أنواع مختلفة من الأسلحة أو ما زالوا متشبثين بأفكارهم المتطرفة، ولهذا فهذا الموضوع يجب أن يكون من اختصاص الجهات الرسمية من جهة، وجمعيات المجتمع المدني الجادة وذات الاختصاص من جهة ثانية، وذلك وفق مقاربة تشاركية".
ويتابع بنعيسى "القانون الجنائي المغربي واضح، فهو يجرم الالتحاق ببؤر التوتر أو الانضمام إلى الجماعات المتطرفة، لكن السلطات المغربية تتعامل بليونة مع النساء والأطفال، حيث لا تعتقل النساء مثلا، لماذا؟ لأن لديها معلومات مؤكدة أن معظمهن لم يتورطن في النزاع المسلح ولم يحملن السلاح، عكس الدول الأخرى التي تعتقل النساء بمجرد عودتهن".